بقلم الباحث التاريخى الشريف / أحمد ُحزين شقير الُبصيلى
الخميس الموافق 3-9-2020م
فتوة… هذه الكلمة الذى تغير وقعها على الأذن خلال سنوات طويلة كانت قديما إشارة للرجولة والقوة والعدل.
أما الآن فقد أصبحت هذه الكلمة مرادفة لكلمة بلطجى أى خارج عن القانون الفتوة والتى تعنى فى المعاجم العربية الشباب بين طورى المراهقة والرجولة أما فى المعجم الوسيط فقد ترادفت معنى هذه الكلمة بمفاهيم الرجولة والشجاعة والإقدام وعلى الرغم من كل هذه الأدلة إلا أن السنوات الطويلة والمتغيرات التى مرت بها مصر كان لها تأثير واضح على تغيير الكثير من المفاهيم وتغير رمز الفتوة بنبوته رمز القوة والشجاعة إلى بلطجى يحمل “سلاح أبيض شاهره فى وجوه المارة لإرعابهم لا لحمايتهم.
اللهم صن لى قوتى وزدنى منها لأجعلها فى خدمة عبادك الصالحين هذا هو الدعاء الذى أنهى به الراحل نجيب محفوظ روايته الأشهرالحرافيش والذى كان يردده بطل روايته عاشور الناجى الذى قام بتجسيد شخصية الفتوة فى العديد من الأعمال السينمائية فقد قدم محفوظ وصفا دقيقا لهذه الشخصية التى كان لها تواجد كبير فى مصر لفترات طويلة واستطاعت أن تحتل مساحة من التاريخ ليس فقط لكونها كثيرة بل لأنها استطاعت أن تلعب دورا مهما فى كثير من الأماكن الشعبية فى القاهرة فقد كانت الحماية للفقراء من استبداد الأغنياء.
عندما تنزل حى الحسينية بالقاهرة تسمع أعجب أخبار الفروسية فأولها كان الولى الصالح سيدى على حجازى الشهير بــ سيدى على البيومى صاحب المقام والمسجد الكبير بــحى الحسنية وله مولد عظيم وهو حسنى النسب وكان يلقب بقاهر فتوات الحسنية فإذا ذهب اليه العباد يشتكون من ظلم احد الفتوات كان يذهب اليه ويضربه ويربطه فى نخلة بجوار مسجد بيبرس بالظاهر ويذهب اليه ليلا راكبا حصان ويعطيه ماء ليشرب وطعام ليأكل ثم يقول له هل ستظلم الناس مرة اخرى فيقول حرمت فيقوم
بفك الحبال من يده وجسمه ويتركه ولهذا لقبوه بقاهر فتوات الحسنية
ولأن حى الحسنية منبت الفتوات ومجمع أبطالهم ولفتواتها صيت ذائع وذكر بعيد وكان فتوة الحسينية إلى عهد غير بعيد يدعى إبراهيم عطية وقد اشتد بطشه وقويت شوكته وأصبح فتوات القاهرة يذكرون اسمه مقروناً بالإجلال والخوف وفى عز مجده سئم الفتونة وتاب إلى الله وخرج من ميدانها وحل ابن أخته أحمد عرابى على العرش ونصب نفسه زعيما عاماً على الفتوات وقاضيا يفصل فى مشاكلهم ورغم قوته البدنية وشدة البطش كان رحيماً بالضعفاء شديد الإحساس يهرع إلى مساعدة المنكوبين ومعونة المحتاجين وأحب الأشياء إلى نفسه أن يجير من استجار به وينصر من خانه الزمان وكانت قهوة عرابى فى الحسينية مقر القضاء والنزاع يتحاكم فيها الفتوات فيفصل بينهم عرابى وحكمه نافذ مطاع لا يجرؤ أحد على عصيانه أو يفكر فى عدم تنفيذه وكان يجلس على قهوته كبار واعيان البلد مثل التاجر الكبير زوزو صاحب مصانع ومحلات وعمارات زوزو والفنان اسماعيل ياسين والفنان الكابتن مختار حسين بطل مصر فى كمال الاجسام والفنان حسن فايق والأديب الكبير نجيب محفوظ الذى كان يسكن حينها فى حى الظاهر وكان يحب يشرب شيشه تمباك
فتأثر بجو الفتوات وكان يجلس بين قهوة عرابى ويتردد على قهوة القماح بميدان الجيش وقهوة قشتمر فأبدع فى كتابه كثير من الروايات التى تلقى الضوء على مجتمع الفتوات بمصر وقد انتهت سطوة عرابى بعد معركة دامية حطم فيها محال ومقاهى وأنهى أرواحا وأسال الدماء فحكمت عليه محكمة الجنايات بالسجن 5 سنوات وهكذا انتهت أسطورته.
وفى حى الظاهر بشارع بين الجناين والصبان عاش الفتوة المعلم محمود شلبى الشهير بالمعلم (أبو حمامة شلبى )عرفته عن قرب حيث ارتبط بصداقته وهو شخص طيب القلب والرجولة والجدعنة ولا يفترى على ضعيف ويحضر حق الضعيف من الظالم كما لا ننسى صديقه المعلم حجاج القماح والمرحوم محمود عطيه والمعلم المرحوم ابراهيم حجازى الشهير الذى استضافته المذيعة عزة الاتربى فى برنامج حكاوى القهاوى ولما سألته عن الفتونه قال جملته الشهيرة بغفوية ( اتخنقنا مع طوب الأرض) وابنه المعلم مجدى الاسترالينى والمعلم صالح محمد على واخوه الكابتن على محمد على والمعلم عيد نوحه حفيد الشريف نوح درويش وعمه الحج المرحوم السيد عبد القادر ذو القلب الحديد الذى كان يسكن بشارع عبد الوهاب الشنوانى بالظاهر بميدان الجيش
من الفتوات الشهيرة فتوات باب الشعرية وبولاق أبو العلا ثم فتوات حى سيدنا الحسين وكان من أشهرهم فهمى على الفيشاوى وقد انتزع زعامة الفتونة من مهدى العجمى الذى كان هول الحى ومبعث رعبه وكان رجلاً عجمياً ضخم الجسم مخيف المظهر ولما زاد بطشه انبرى له الفيشاوى ودارت بين الاثنين معارك جمة انتهت بهزيمة مهدى العجمى ورحيله إلى الإسكندرية مخلياً الحى للفيشاوى.
والفيشاوى هو صاحب المقهى الذى باسمه فى ميدان حى سيدنا الحسين والذى كان يجلس عليه أستاذنا نجيب محفوظ وقد عُرف باسم الأديب العالمى وصار ملتقى لأدباء مصر والعالم ومزارا لكل محبيه ونجيب هو الأديب الذى أرخ لعصر الفتوات وكتب عنهم حكايات مذهلة وغير مستبعد أن يكون قد سمع بعضها من فهمى الفيشاوى.
وارتباط فكرة البطولة والفتونة بالوجدان الشعبى وثيق فالفتوة محمود الحكيم فتوة حى الكحكيين كانت عصاه من خشب متين لها رأس مجوف محشوة بالرصاص المذاب فهى سلاح شديد الخطورة ضرباتها تصرع فى الحال وكان يسميها الحاجة فاطمة وأصبحت أثرا شهيرا فى عالم الفتونة وكان والد محمود الحكيم عطاراً ويعالج بالأعشاب العيون فأطلق عليه أهل الحى لقب الحكيم ومحمود الحكيم الفتوة نفسه كانت له قهوة جميلة وتغنى بها الناس:
أما جليلة فتوة الجيزة المشهورة فقد تركت الفتونة وكرهتها فى عام 1958 بعد الحادثة التى راح ضحيتها أخوها ودخل أبناؤها الثلاثة السجن، وأصبحت معلمة مقهى، وقصة زواجها طريفة فقد شاهدها عباس فى معركة وأعجب بها، فذهب إلى أخيها قرنى يطلب يدها، لكنها طلبت من العريس أن يثبت قوته وشجاعته ودفعت به إلى مشاجرة، واستطاع العريس بقوته البدنية أن يفضها ويسيطر عليها فتزوجته جليلة. وجليلة كان اسم شهرتها سكسكة وكان أعداؤها يؤلفون الأشعار فى مهاجمتها ومنها هذا البيت: يارب أهلك سكسكة فى يوم حرب مهلكة.
أما فى بولاق والسبتية لا أحد ينسى إبراهيم كروم فتوة هذه المنطقة لسنوات طويلة وحاميها من بطش الظالمين حيث كانت شومته وسيلة الدفاع فطالما استخدمها لاسترداد حق أو الفصل فى منازعة بين طرفين، شهم وقوى وجرىء هكذا كان إبراهيم كروم الذى توفى فى منتصف الستينات عن عمر 55 عام
كما كان الفتوة ابو صريرة رجل ذو قوة وفتونة ولا ننسى ببولاق الفتوة الخشاب والمعلم فهمى فنون الجعفرى ملك اللعب بالنبوت
هذه الظاهرة التى اندثرت فى نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، وانتشر نقيضها خلال السنوات وانتهى زمن الفتوات الجميل فسلاما على أرواحهم لمن رسخوا أصول الجدعنة والشهامة فى الأحياء الشعبية المصرية.
فى عام 1950م نشرت مجلة الاتنين والدنيا بعقد ندوة اسبوعية بدار الهلال بالقاهرة وكان عنوان ندوة الاسبوع الشقاوة رياضة الفتوات
افتتح المقال المنشور عام 1950 بمجلة الاثنين والدنيا بكلمة مضحكة مع صورة لأثنين من الفتوات الحاضرين هى : أردنا ان تقدما لنا خناقة بمثابة عينة حتى نقف على اخر موديل تشاجرات للفتوات أولاد البلد ولكنهما استجابا الىرجائنا ثم امتنعا قبل ان يمضيا فى تقديم هذه العينة الخطرة .
حيث استضافت دار الهلال بعض من فتوات مصر للرد على اسئلة الجمهور المتواجدة خلال الندوة حيث عرض الفتوات أهم القيم والأخلاقيات التى يجب ان يتصف بها الفتوة حيث قالوا انهم يعالجون مشاكل الناس والمجتمع حولهم
وقال الفتوة فهمى محمد الصغير فنون البًصيلى من فتوات بولاق أبو العلا: اذا طلق رجل زوجته وكان متجنيا عليها وتطلقت عمدا قام الفتوة الى إرغامه على إعادتها الى عصمته وإلا هشم رأسه ..
والويل للشاب الذى يغازل فتاة من أهل الحى انه يكون عرضه ( لعلقة سخنة) تلزمه الفراش أسابيع .
والويل للمرأة المستهترة أو المريبة فى سلوكها فإنها إذا لم تنتقل من الحى بإسرع ما يمكن رأت أثاث منزلها ملقاة فى الطريق العام بواسطة أنصار الفتوة
ومن فتوات السينما الذى اشتهروا على الشاشات بطل مصر والعالم فى كمال الاجسام الشحات مبروك الذى اشتهر عبر الافلام بالضرب والخناقات وإحضار حق المظلوم
وقد تشرفت كثيرا بالجلوس معه على قهوة القماح بـــحى الظاهر ودار بيننا كثير من النقاشات حول الفتونة.
ومن فتوات المشاهير بمصر فى سوق السلاح: المعلم عبد الغنى
وفى الدراسة “حسن كسلة والعطوف: ابن وهدان
وفى الجمالية: أولاد منتهى والمعلم بدوى العلاف وشقيقه طعلى
وفى الكحكيين: محمود الحكيم وشقيقه عبده الحكيم
وفى الظاهر المعلم أبو حمامة شلبى والمعلم حجاج القماح.
كما امتاز بالشقاوة فى حى الحسينية والظاهر مدحت الشماشرجى وسكاى وكان بينهم جولات شهيرة جدا فى المعارك كما كان بين مدحت الشماشرجى وحجاج القماح وصديقه محمد شلبى معارك يعلمها الذين حضروا هذه المعارك سوف اكتب عنها قريبا فى حلقات منفصلة.
كل هؤلاء الفتوات رحلوا إلا اشخاص منهم معدودين وقد ورث الاجيال التى جالستهم مبدأ العدالة حيث ظلوا هؤلاء الفتوات يحمون أهالي المنطقة من بطش الظالمين لفترة زمنية كبيرة إلى أن انتهى زمن الفتوات وظهر الان زمن البلطجة وقلة الأدب وكل ما تبقى من آثارفتوات زمان هو حطام منازلهم واسم المنطقة فقط.