بقلم د/عبير سعد
العين جوهرة غالية قد لا يعرف قيمتها إلا من فقد نعمة الإبصار وللأسف فإن الملايين حول العالم مصابون بفقد الإبصار لأسباب يرجع أغلبها لضعف الرعاية الطبية ولكن لحسن الحظ فإن معظم هذه الحالات يمكن شفاؤها تماما بعمليات جراحية بسيطة يستطيع بعدها الكفيف الإبصار مرة أخرى.
وقد كرس بطلنا لهذا اليوم حياته لمحاربة فقد الإبصار في العالم ونجح في نشر رسالته على مستوى العالم حتى أصبح ملهما للملايين وأصبحت سيرته الذاتية تدرس في أكبر الجامعات في العالم كنموذج مشرف لقوة الإرادة والإصرار والعمل من أجل صالح الإنسانية والعالم أجمع.
ولد بطلنا دكتور جوفيندابا فينكاتاسوامي (Govindappa Venkataswamy) أو كما يطلق عليه المقربون دكتور V في الأول من أكتوبر عام 1918في قرية فقيرة من قرى جنوب الهند وكان الأكبر في عائلة تضم 5 أطفال وفي عامه العاشر فقد ثلاثة من أبناء عمومته أثناء ولادتهم لسوء الرعاية الصحية في ذلك الوقت ⸲ وقد أثرت هذه الحادثة عليه تأثيرا كبيرا نظرا لطبيعته الإنسانية الجارفة ⸲ ولذا فقد قرر أن يصبح طبيبا عندما يكبر حتى لا تحدث وفيات أخرى بسبب ضعف الرعاية الصحية في بلدته ⸲ وقد حقق حلمه بالفعل وأصبح طبيبا للنساء والتوليد في قريته وتحسنت الرعاية الصحية على يديه إلى حد كبير ⸲ إلى أن فاجأه القدر وهو في أوائل الثلاثينات من عمره بمرض الروماتويد الذي أثر على كفاءته كطبيب للنساء والتوليد ⸲ ولكنه لم يستسلم ⸲ فقرر أن يغير مجال عمله إلى طب العيون ⸲ والذي سيمكنه أيضا من تحقيق حلمه في مساعدة البسطاء ورعايتهم صحيا ⸲ وذلك بعد أن اكتشف أن 45 مليون شخص حول العالم يعانون من فقد الإبصار وأنه يمكن علاج 80% منهم بعمليات جراحية بسيطة.
في عام 1965 وفي مؤتمر حول إعادة تأهيل المكفوفين ، التقى دكتور V بالسير جون ويلسون ، مؤسس جمعية الكومنولث الملكية للمكفوفين وكان الأخير قد أصيب بالعمى في طفولته بسبب حادث في مختبر الكيمياء بمدرسته و ينسب الفضل إلى إرشادات السير جون ويلسون في مساعدة بطلنا في تطوير رؤية عالمية للوقاية من العمى فقد التقى الرجلان برئيسة الوزراء آنذاك ، إنديرا غاندي ، للمساعدة في إطلاق البرنامج الوطني الهندي للسيطرة على العمى ثم قاد دكتور V مبادرة تاميل نادو لإنشاء معسكرات عيون متنقلة نقلت خدمات استعادة البصر إلى المناطق الريفية في الهند ⸲ كما أسس مركز تأهيل المكفوفين عام 1966 ، وبرنامج تدريب مساعدي طب العيون عام 1973.
وفي 1976 أحيل بطلنا للتقاعد بعد أن قام بإجراء 100 ألف جراحة للعيون بمفرده ⸲ ولكن حلمه لم يتوقف بإحالته للتقاعد ⸲ ولكنه استمر وأخذ في النمو والازدهار ⸲ حيث قام بالاشتراك مع أخوته بإنشاء مركز طبي للكشف على المرضى وإجراء عمليات العيون يضم أحد عشر سريرا فقط․
كان حلم بطلنا هو القضاء تماما على مشكلة فقدان البصر في العالم ⸲ فهل سيتحقق هذا الحلم بهذه البداية المتواضعة؟ وهل سيعالج 45 مليون شخص بأحد عشر سريرا فقط؟
كانت هذه البداية المتواضعة هي حجر الأساس لسلسلة من المستشفيات والمراكز الطبية المنتشرة في جميع أرجاء الهند والتي بلغ عددها 4 مستشفيات ضخمة و7 مراكز متخصصة و40 عيادة متخصصة ⸲ قامت بفحص 55 مليون مريض وتم إجراء 8,6 مليون جراحة ⸲ وذلك بعد 35 عاما فقط من البداية ⸲ فكيف قام بطلنا بهذه المعجزة في هذا الزمن القصير ⸲ علما بأن الجزء الأكبر من خدماته كانت مجانية تماما؟
التزم دكتور V طوال حياته بثلاث مباديء رئيسية ⸲ أولها كان الالتزام التام بعلاج جميع المرضى المترددين على وحداته بصرف النظر عن إمكاناتهم المادية مع الحفاظ على كرامتهم ⸲ وكان المبدأ الثاني هو الالتزام بالجودة العالية في خدماته سواء المجانية أو الاقتصادية ⸲ أما الثالث فكان الاعتماد التام على موارده المادية مهما قلت ⸲ وعدم اللجوء نهائيا للمساعدات أو التبرعات الخارجية حتى الحكومية منها ⸲ حيث كان مبداه أن رأس المال سيد ⸲ وحينما يقبل بمشاركة الآخرين فسيكون مضطرا لقبول سياساتهم والتي قد تتعارض مع سياساته ⸲ فكيف استطاع بطلنا تحقيق هذه المعادلة الصعبة؟
قام دكتور V بإنشاء قسم اقتصادي لعلاج القادرين ⸲ وكان هذا القسم يتكفل بتكاليف القسم المجاني ⸲ ولكن كانت الخدمات الطبية في الجانبين متطابقة تماما وكان الاختلاف فقط في الخدمات الفندقية ⸲ وقد ساعد هذا الإجراء بطلنا على زيادة عدد المستفيدين من خدماته ⸲ فتوسع أكثر وأكثر في عدد المراكز حتى يحقق الفائدة لأكبر عدد ممكن من المرضى․
ولكن ذلك لم يحقق له حلمه بدرجة كافية ⸲ فقام بزيارة القرى والبلدان الفقيرة للكشف على المرضى ⸲ وتحويل الحالات التي يمكن علاجها لمراكزه ⸲ فزاد العدد قليلا ولكن ليس بالدرجة الكافية أيضا ⸲ رغم أنه كان يقوم بعمل 2500 معسكر طبي سنويا بمتوسط 40 معسكر أسبوعيا ⸲ وعندما قام بدراسة أسباب ذلك ⸲ تبين له أن المريض الواحد (رغم كون العلاج مجاني تماما) يتكلف حوالي 100 روبية هندية حتى يتلقى هذا العلاج ما بين مصاريف الانتقال من قريته للمركز وتكاليف إقامته وغذائه وكذلك تكاليف المرافق له حيث أنه من المستحيل انتقاله بمفرده إلى بلد آخر ⸲ ولما تبين له ذلك قرر التكفل بكافة تكاليف المريض ومرافقه حتى يتسنى له تلقي العلاج المناسب ⸲ وكان هذا القرار الإنساني كفيلا بزيادة أعداد المرضى المترددين على مراكزه وزيادة الحالات التي تم شفاؤها تماما من فقدان البصر ⸲ مما شجع بطلنا على زيادة أعداد المراكز التابعة له حتى يتمكن من الوصول إلى كل المرضى المحتاجين لخدماته․
ولكن ذلك لم يرض طموح بطلنا التواق لعلاج جميع المكفوفين على مستوى العالم ⸲ فقرر دراسة كيفية زيادة الموارد وتوفير النفقات مع الالتزام بمبادئه الراسخة حتى يستطيع زيادة أعداد المرضى المتلقين للعلاج ⸲ ووجد ضالته المنشودة في تكاليف المستلزمات الطبية اللازمة للعمليات من عدسات وخيوط جراحية ومشارط وخلافه ⸲ فقرر في البداية إنشاء مصنع لإنتاج العدسات والتي كانت تمثل الجزء الأكبر من تكاليف العملية الجراحية ⸲ حيث كانت العدسة الواحدة تكلفه 150 – 300 دولار ⸲ ولكن تكلفتها بعد تصنيعها انخفضت إلى 10 دولارات فقط ⸲ مما وفر الكثير من تكاليف العملية ⸲ ولكن هذا الفرق الكبير في التكلفة أثار قلق الكثيرين من جودة العدسة المصنعة في مصانع بطلنا ⸲ ولكن لثقته التامة في جودة منتجه فقد أرسل عينة من هذه العدسات ليتم فحصها بمعامل الولايات المتحدة الأمريكية ⸲ والتي أثبتت أن جودتها لا تقل عن مثيلتها الغربية ⸲ ولذا انهالت عليه طلبات الاستيراد من البلدان الأخرى فأصبح يقوم بتصدير منتجه ل 120 دولة ⸲ مما ساعد في زيادة موارده المادية أيضا ⸲ وعندما نجحت الفكرة قام بإنشاء مصنعا متكاملا لإنتاج كافة المستلزمات الأخرى من خيوط وابر ومشارط وخلافه ⸲ مما قلل من التكاليف أكثر وأكثر ⸲ فازداد عدد المنتفعين من خدماته․
ولم يكتفي بطلنا بكل ذلك ⸲ بل أصر على نشر حلمه ورسالته في كافة أرجاء العالم ⸲ فقام بطلنا بتدريب 6000 طبيب في 270 مستشفى عالميا في 60 دولة حول العالم على أسلوبه في إجراء العمليات الجراحية بغزارة وجودة عالية ⸲ حتى يعودوا لبلدانهم ويساعدوا في نشر رسالته وتحقيق حلمه بالقضاء نهائيا على مشكلة فقد الإبصار العالم.
ولكن كيف استطاع بطلنا تحقيق المعادلة الصعبة بتقديم الخدمة لأكبر عدد من المرضى بتكلفة بسيطة وجودة عالية؟
درس بطلنا العديد من نماذج الإنتاج المختلفة لأشهر الشركات والمصانع إلى أن توصل إلى النموذج المثالي والذي يستطيع من خلاه تحقيق حلمه ⸲ وكان هذا النموذج هو نموذج الإنتاج في مطاعم ماكدونالدز ⸲ والذي يتبنى مبدأ الإنتاج الغزير بنفس الجودة العالية والسعر البسيط ⸲ وآمن بطلنا بأنه إذا توصل للكيفية التي يستطيع بها إجراء أكبر عدد من العمليات الجراحية للمرضى بنفس الكيفية التي تنتج بها ماكدونالدز الهامبورجر فسوف تختفي مشكلة فقد الإبصار نهائيا من العالم ⸲ فعكف على دراسة هذه الكيفية إلى أن توصل إلى الأسلوب الذي مكنه من تحقيق حلمه ⸲ حتى أصبحت العملية الجراحية الواحدة في مستشفياته تستغرق 5,3 دقيقة فقط ⸲ مما مكنه من زيادة عدد الحالات التي يتم إجراء الجراحات لها ⸲ وزيادة أعداد من استعادوا إبصارهم من جديد ․
كان الجراح في مستشفيات بطلنا يقوم بإجراء 2000 عملية في السنة في حين أن المتوسط العالمي للجراح كان 400 عملية في السنة ⸲ وقد تدفع هذه الإحصاءات البعض إلى الظن بعدم جودة وكفاءة العمليات الجراحية التي تجرى في مستشفيات أرافيند ⸲ ولكن الحقيقة غير ذلك تماما ⸲ فحسب الإحصاءات العالمية ومقارنة بدولة عظمى مثل المملكة المتحدة ⸲ فإنه تجرى سنويا 500 ألف عملية جراحية بالمملكة المتحدة نظير 300 ألف عملية بمستشفيات أرافيند وحدها ⸲ تتكلف هذه العمليات بالمملكة المتحدة 6.1 مليار دولار ⸲ في حين تتكلف 8.13 مليون دولار فقط في مستشفيات أرافيند ⸲ ومع ذلك فقد أظهرت إحصاءات الجمعية الملكية لأطباء الرمد أن معدل المضاعفات في مستشفيات أرافيند يساوي تقريبا معدل المضاعفات في المملكة المتحدة ⸲ أي أن بطلنا استطاع تحقيق المعادلة الصعبة وهي الإنتاج الغزير بسعر بسيط وجودة عالية․
كان بطلنا في الثامنة والخمسين عندما بدأ في تحقيق حلمه وكان كل ما فعله من أجل صالح الإنسانية كلها ⸲ وقد نجح في تحقيق الجزء الأكبر من حلمه قبل وفاته عام 2006 ⸲ ولكن حلمه ما زال مستمرا على أيدي تلامذته المؤمنين برسالته الإنسانية ⸲ وبنفس مبادئه الخالدة․
عندما تتبع حلمك وتكون رسالتك في الحياة هي خدمة الآخرين ومساعدتهم ⸲ فسوف تصل حتما إلى تحقيق أهدافك وأحلامك في الحياة ⸲ وسيسعد معك الآخرون ⸲ وتسعد أنت أيضا في الدارين ⸲ الدنيا والآخرة․