الكاتب : إسلام الجزار
نظراً لأدائه المتميز وصوته الندي العذب، حقق الشيخ راغب مصطفى غلوش لنفسه مكانة متميزة بين عمالقة القراءة في مصر والعالم العربي، ورغم صغره وقت ظهوره في دنيا التلاوة، إلا أنه دائما كان ثاني اثنين من المرشحين لإحياء المآتم الكبرى في أي مكان بمصر، وقد أحيا الليالي الرمضانية في معظم دول العالم لأكثر من ثلاثين عاماً متتالية كقارئ لكتاب الله عز وجل إيماناً منه بدوره الكبير في نشر رسالة الإسلام.. ولد القارئ الشيخ راغب مصطفى غلوش قارئ المسجد الدسوقي عام 1938 بقرية «برما» بمدينة طنطا.. أراد والده أن يلحقه بالتعليم الأساسي ليكون موظفاً كبيراً.. ولكن الناس في ذلك الوقت كانت تهتم بتحفيظ أبنائها القرآن ليكونوا علماء بالأزهر الشريف..
ومن هنا أشار أحد أقرباء الحاج مصطفى غلوش عليه بأن يأخذ ولده راغب ويسلمه لأحد المشايخ المحفظين لكي يحفظه القرآن وبالفعل وافق الأب وسمح لابنه بالذهاب إلى كتاب القرية بعد انتهاء اليوم الدراسي. وهناك ظهرت على الطفل علامات النبوغ والتفوق وأعلنت الموهبة عن نفسها فكان الطفل صاحب الثماني سنوات حديث أهل القرية لما لمسوه من جمال صوته وقدرته المذهلة على ترتيل القرآن وتجويده، هذه الأسباب جذبت انتباه شيخ الكتاب فميزه على أقرانه وكان دائم النصح والتوجيه له لأنه توسم فيه الخير وتوقع له مستقبلاً زاهراً بين مشاهير القراء وكان ذلك سبباً في تفوق الطفل في إتمام حفظ القرآن وتلاوته قبل سن العاشرة.
وفي الرابعة عشرة من عمره اشتهر وذاع صيته بالقرى المحيطة بمدينته وجاءته دعوات كثيرة لإحياء عديد من المناسبات الدينية الخاصة، ولكنه أدرك بفطنته أن احترافه كقارئ للقرآن الكريم لابد أن يكون له أسس وقواعد راسخة أهمها إلمامه بعلوم القرآن الخاصة، فبحث الشيخ راغب عن شيخ متين في علوم القرآن ليتلقى على يديه علمي التجويد والقراءات فاتجه إلى مدينة طنطا والتحق بمعهد القراءات بالمسجد الأحمدي وتولاه بالرعاية الشيخ إبراهيم الطبليهي
وتوسم فيه الشيخ خيراً فاهتم بتعليمه علم التجويد والأحكام السليمة مما أهله ليكون قارئاً للقرآن قراءة صحيحة.. فالتفت حوله الكثيرون وأحبه كثير من الناس وخاصة لأن قراءته كانت قريبة من قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل الذي كان محبوباً من قبل الناس حينذاك.. ومن معظم قرى محافظة الغربية جاءته العديد من الدعوات التي عرفته بالمحافظات الأخرى مما جعله يثق في نفسه ويصنع له حضوراً وتميزاً بين عمالقة القراء في ذلك الوقت.
يقول الشيخ راغب : «التحقت بقوات الأمن المركزي بعد بلوغي سن الثامنة عشر لألبي حق الدفاع عن الوطن.. وكنت دائماً أتردد على مسجد الحسين لأصلي فيه وأتطلع لأقرأ ولو آية واحدة أو أرفع الآذان.. وكنت حريصاً كذلك على تعريف المسؤولين عن المسجد بي.. وبالفعل تعرفت على شيخ المسجد وقرأت أمامه القرآن فأعجب بي وشجعني كثيراً.. وذات يوم أطلعته على أمنيتي بشأن رفع الآذان وقراءة القرآن قبل إقامة الصلاة فقال لي : يا راغب إذا تأخر الشيخ طه الفشني فسيكون لك نصيب وتؤذن للعصر.. فدعوت الله من كل قلبي أن يتأخر الشيخ طه الفشني وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة..
وتأخر الشيخ الفشني وبدأت في الآذان لصلاة العصر.. حدث هذا وأنا في زي العسكرية مما لفت إلي الأنظار.. وكان هذا في رمضان والصوت في رمضان يكون رحيماً ناعماً وجميلاً، وقرأت سورة الحاقة لينقلب جو المسجد ويمتلئ بالجماهير التي وصلت لترى صاحب ذلك الصوت، واندمجت في التلاوة بتشجيع الناس وواصلت التلاوة إلى أكثر من نصف ساعة، وعدت إلى المعسكر وفرحتي لا توصف مما زاد من ثقتي بنفسي حتى إن القائد سلمني مسجد المعسكر كمسؤول عنه.. وكنت أتردد كثيراً على مسجد الحسين لألتقي بالشيخ محمود خليل الحصري والشيخ طه الفشني والشيخ الغزالي.
شاويش في الإذاعة
وفي مسجد الحسين تعرفت على كبار المسؤولين في الدولة وكانوا من أكثر المشجعين لي وأكثرهم حرصاً على انطلاقي للقراءة أمام الجماهير.. ودعوني في كثير من المناسبات الخاصة لاحياء المآتم وسرادقات العزاء، واستمر الحال كذلك حتى قابلت بين رواد المسجد الأستاذ محمد أمين حماد مدير الإذاعة حينذاك فطلب منه الحاضرون أن يعطيني كارتاً حتى أتمكن من دخول الإذاعة لتقديم طلب الالتحاق كقارئ معتمد هناك..
وبالفعل أعطاني كارتاً وموعداً للحضور وذهبت للإذاعة وتحدد لي يوم لإجراء الاختبار وبالفعل اجتزت الاختبار وفرحت كثيراً لأنني دخلت بين زمرة مشاهير القراء بالإذاعة كالشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمد صديق المنشاوي والشيخ الفشني والشيخ عبدالعظيم زاهر والشيخ البهتيمي، وجاء قرار اعتمادي كقارئ بالإذاعة أثناء انهائي اجراءات الخروج من الخدمة الوطنية فكنت أول شاويش يدخل الإذاعة. وعندما علم أهل قرية الشيخ راغب بأخبار اعتماده كقارئ في الإذاعة فرحوا كثيراً واستقبلوا هذا الخبر بالبشر والسعادة واعتبروه مكافأة لإنهاء خدمته الوطنية عام 1962.
واستطاع الشيخ راغب أن يؤكد على وجوده ضمن عمالقة القراءة في مصر والعالم العربي آنذاك.. وأصبح حديث الناس داخل مصر وخارجها بسبب آدائه المميز القوي وصوته الندي العذب.. يظهر ذلك من خلال تميزه بأسلوب خاص رقيق في تعامله مع جمهور المستمعين الحاضرين تلاوته مباشرة والجالسين أمام شاشات التليفزيون.. وكان حريصاً على التزام الهدوء والوقار بما يليق مع عظمة وجلال كلمات الله الكريم..
مما زاد من تركيز السامع لما يقرأ وكان اسمه يتردد ضمن أفضل القراء المحببين والمفضلين لدى كبار العائلات المعروفة باستقدام الأسماء الكبيرة في عالم التلاوة، ورغم صغر سنه وقتذاك فدائماً كان ثاني اثنين من المرشحين لاحياء المآتم الكبري في أي مكان بمصر.. فإن لم يكن عبدالباسط فالبديل غلوش وإن لم يكن مصطفى إسماعيل فالبديل هو غلوش ساعده على ذلك التشابه المقصود بين آدائه وآداء الشيخ مصطفى إسماعيل والذي تأثر به تأثراً كبيراً وخاصة في قوة الشخصية والوقار المهذب وجلال وعظمة أهل القرآن..
وبعد رحيل جيل كامل من العمالقة تربع الشيخ راغب على عرش التلاوة في العالم بعدما يقرب من أربعين عاماً قضاها قارئاً للقرآن الكريم بالإذاعة المصرية والإذاعات العالمية، وحصل في تاريخه الطويل على كثير من شهادات التقدير والأوسمه التي كان أقربها إلى نفسه الوسام المتمثل في حب الناس وتقديرهم الذي تجلى في إعلان إسلام العشرات بعد سماعهم لتلاوته في المركز الإسلامي بلندن عام 1970 حينما كان مبعوثاً لإحياء شهر رمضان من قبل وزارة الأوقاف وصحبة الشيخ نصر الدين طوبار.
رحلته مع القرآن سافر الشيخ راغب إلى معظم دول العالم وخاصة في شهر رمضان المبارك لأكثر من ثلاثين عاماً متتالية كقارئ لكتاب الله عز وجل إيماناً منه بدوره الكبير في نشر رسالة الإسلام وتأديتها بما يليق بجلالها وعظمتها.. فاشتهر في دول الخليج العربي وأحبه ملايين المستمعين هناك ووجهوا إليه الكثير من الدعوات لإحياء المناسبات الرسمية وخاصة في الكويت والإمارات والسعودية كما سجل لإذاعات هذه الدول مصحفاً مرتلاً يذاع هناك كل صباح ومساء.
يقول الشيخ راغب : «في أثناء تجنيدي عام 1961 حدث أن توفي أحد اللواءات بوزارة الداخلية وطلب مني قائدي أن أذهب للعزاء وأشارك الشيخ الموجود في القراءة، وعندما ذهبت إلى هناك فوجئت بحجم السرادق المنصوب للعزاء ورأيت أعداداً غفيرة من الجماهير وعرفت الشيخ الذي سأشاركه القراءة هو الشيخ عبدالباسط عبد الصمد.. عندها خفت خوفاً شديداً لأن الشيخ عبدالباسط صاحب إمكانات مذهلة من الممكن أن ترهب أي قارئ تأتي به الأقدار إلي سهرة هو قارئها وطلبت من الله أن يوفقني