بقلم : ايه زيدان
” أكتب إليك بعد عمرِ من الفراق ،أكتب إليك من مشارق الدنيا وأنت قابع فى مغاربها أنى قد اشتقت ،إشتقت لأحاديثنا التى لم نمل منها يومًا ،اشتقت لنظرة عيناك التى كانت دائمًا ما تعبر عما بداخلك من لوعة الحب ونار الإشتياق لكنى كنت أتعمد أننى لا أباليها ، اشتقت لآرائنا التى لم تجد طريقًا واحدًا للسير فيه يومًا لكنها على أية حال كانت ممتعة بالنسبة لكلانا أو قل بالنسبة لى على وجه التحديد .. أتذكر يوم أن سافرنا سويًا فى طريق العودة للمنزل ،حينها جلست أنا بالقرب من النافذة كعادتى ،لكن تلك التى لم تكن كعادتى يومًا أنى لم انظر من خلالها هذه المرة ،بل نظرت خلال عيناك ،ووجدت نفسى بين جفونك كأميرة ، أتذكر حديثنا حينها ! يدور ببالى كأنه حدث بالأمس سألتنى كعادتك
ما رأيك بالحب !
وأجبت حينها ببعضًا من الفلفسة كعادتى
الحب هو التقاء روحين فى نظرة ، هو أن تجد وطنك فى كف من أحببت ،هو أن تطمأن ،الحب هو الذي يحمل فى طياته الكثير من الصداقة ،يقول ابن حزم فى طوق الحمامة : إن للحب حكما على النفوس ماضيًا ،وسلطانًا قاضيًا ،وأمرًا لا يخالف ،وحدًا لا يُعصى وملكًا لا يتعدى وطاعة لا تصرف ونفاذًا لا يرد! .. الحب سلطان جبار يمكن له أن يكون جابرًا للكسور ويمكن له أن يكون أصل تلك الكسور ..
جواب ضخم لسؤال بسيط !
ليس بسيطًا ،فللحب معانِ كثيرة ،وسؤالك بوابة لعالم ضخم ،وها قد جئتك بعنواين بسيطة لهذا العالم ..
وهل أحببت يومًا يا ورد ،أم أنك بارعة فى الفلسفة فقط
وهل لنا إلا أن نتفلسف ،فالحب لا يصلح إلا أن يكون فى الكتب ،ذلك هو المكان الذي يستحقه
لم أفهم من جوابك ما إن أحببت من قبل أم لا ! أم أنك تتوارين خلف الحروف
كلنا نتواري من أحزاننا يا عمر ! لم يكن ما عشته يومّا حب،فقد كان هروبًا من واقع مؤلم ،او كان فراغًا قاتلًا أهوى بى بأرض الاوهام ،عندما قرأت عن الحب وبحثت عنه وعن قصصه ورأيت حب الرسول صل الله عليه وسلم لخديجة فى حياتها وحتى بعد مماتها أدركت أننى لم ولن أحب يومًا من الايام ،كلها هواجس من مشاعر مزيفة ،زيفتها الدنيا وأظهرتها للعالم بأسم الحب ،الحب ما بقى وازداد مع مرور الزمن وغلفه الحنان وأزانه التغافل وسعة الصدر ،وهذا لم يحدث معى ! أذن انا لم أعش قصتى بعد .. وأنت؟ أهل شعرت يومًا بالحب ،وما أعنيه هو ذلك الحب الصادق !
أجل ..شعرت به مرة واحدة مؤخرًا .. شعرت بأن كنت لاجئ من دونها وعندما وضعت كفها بكفى لكى نقطع الطريق حينها شعرت بأن وطنى بكفها رغم صغره ، دائما كشاب أحب أن أبرز مميزاتى امام الجميع لكن أمامها تعمدت إظهار مساوئى حتى أرانى بعينها لا بعينى .. وحينما شعرت أن لدى من العيوب ماهو مميز لديها أحببتنى من جديد .. أظهرت ضعفى عندما ماتت أمى وحدثتها حينها على الفور وأنا أبكى دمًا بدل الدموع ،وعندما أتت فى صباح تلك الليلة وضمت يدى بشدة أدركت بأنى قد غرقت لا محالة ..
أتكلمت مع واحدة غيري يا عمر فى هذا اليوم ! وهل هناك انثى أخري ضمت يداك سواى!! أنكم يا معشر الرجال ماكرون …
وأنتم يا معشر النساء ناقصات عقل ..
حينها كنت على دراية تامة بأنك تتحدث عنى ولى ،لكنى تعمدت التغابى لكيلا تفوتنى أعظم لحظات حياتى .. وهى لحظات إشارات الحب ..
اليوم بعد أن أتممنا عامين من الفراق ،أقولها لك وبكل ثقه ،أننى لم أشعر بالحب إلا على يداك ..
إلى جميلتى ووردة عمرى ” ورد”
أكتب إليكِ من بلاد الغربة وأقول :
أن كلماتك أعادتنى إلى وطنى ،وأن صدى صوتك مازال يتردد فى أذنى بعد ، وأننى لم أنساكِ قط ،
إلى صديقتى وحبيبتى .. أو قولى إلى حبيبتى الصادقة ..
أشتقتك كثيرًا ،بل أنى أكاد من فرط الحنين أنكسر .. إن لم تبعثى لى برسالتك تلك التى أردت إلىّ عمرى وذكرياتى ،كنت أنا من سيفعل …
تذكرين حين قلت لكِ :
إن عيناك وأنت تبتسمين نافذة أرى منها الجنة
كف عن المجاملات ،تعرف أنها لا تروقنى كثيرًا
حينها كنت أعنيكِ أنت بالجنة يا ورد .. لطالما كانت العيون نوافذ الروح وكانت روحك كالجنة بالنسبة لى .. لكننى قد كففت حينها ،خوف أن يفضحنى لسانى ويروى ما أحاول أن أخفيه خلف صدرى مخافة خسرانك .. فإن كنت قد لا أحصل عليكِ كحبيبة فأنى لا أطيق أن أخسرك كصديقة ..
تذكرين يا ورد حين اشتدت بى المرض وحُجزت أسبوعًا داخل المستشفى … تذكرين مواقفك أم أنك نسيتها .. جئتنى حينها وانت باكية واحتضنتى اختى الصغيرة واكملت بكائك _قلما تبكين _ لكن هذه المرة لم تسيطري على كبريائك فقد غلبكِ حبك .. حينها شعرت بيدك ترتجف من الخوف فى كفى .. وطمأنتك أننى بخير وانت مازالتِ تبكين ولم تهدئى حينها إلا عندما ألقيت على مسامعك نكته سخيفة من نكاتى التى تحبينها رغم كرهك لمثل هذه النكات .. حينها كنت تأتينى كل يوم ومعك ظرف به رسالة مكتوبة بخط يداكِ وبعض الحلويات التى أفضلها ..
أذكر تلك الرسائل وما بهامازلت احفظها عن ظهر قلب ؛ فقد كانت ست رسائل
الرسالة الأولى كتبتِ فيها : “
أهلا بك صديقى السخيف ،لم يكن يومًا جيدًا بالنسبة لى ،أخرج وسيكون كذلك “
أما الثانية فكانت :” ها قد هدأ الجو من حولى منذ جلوسك فى هذا السرير المنكوب ،لم أكن أعرف أن إزعاجك وصخبك يعنى لى حياتى “
والثالثة قلتِ لى حينها افتحها الآن وأنا أمامك ،حينها اندهشت وتداركنى الفضول عما سيكون فيها ووجدتك قد كتبتِ فيها : ” ابتسم” حينها ابتسمت حقًا ،وكانت ابتسامتى نابعة من كل خلية بأركانى ..
الرابعة وقد كانت ” هيا لنتناول بعض الفشار سويًا داخل المحاضرة ،لقد اصبح الجو كئيب حقًا “
والخامسة وقد كتبت فيها : ” افتقدت احدايثنا التى كانت تنتهى بطريق مسدود .. لو خرجت بسرعة سأعدك بأن أجد لها نهاية تناسبنا سويًا “
والأخيرة وقد كانت ..” تذكرنى دائما كما أفعل أنا وإياك أن تنسانى فسأجعل أيامك كلها على هذا السرير المنكوب “
لعل عدم نسيانى إياك ماجعلنى أخرج من هذا السرير المنكوب ،لكنى قد دخلت بالحياة المنكوبة ،والأحزان المتتالية التى تعلن قوتها ويعلو صوتها .. تذكرين يوم أن أعترفت لكِ بما فى قلبى ..
ورد ،هل يمكن أن تقبلى برجل مثلى أن يكون لك وطنًا !
ولم قد أقبل بمثلك وأنت هنا !
حينها لم تسعنى الفرحة وشعرت بأن أجنحتى التى نمت على يدك قد تعلمت الطيران وشعرت بأننى أحلق وأن تلك السماء لا تسعنى حينها قلت لك :
أهذا يعنى أن يمكن أن يتقدم مجنون مثلى إلى فيلسوفة مثلك لطلب يدها !
ويمكن لفيلسوفة مثلى أن تصبح مجنونة وتقبل بهذا المجنون
ذهبت حينها على الفور لطلب يداكِ ،لكن كان للقدر رأي آخر .. فقد رفض أباكى أن يزوجكى لشاب لم يجد عمله بعد ولم يتخرج حتى ،وكان بالنسبة إليه ماهذا إلا طيش شباب ونزعة شاعرية ستزول عما قريب .. لقد رفض بشدة ومثله أبى رفض أن يكمل الحديث بهدوء معه واشتد الصدام بينهما وافتقرنا .. الآن انا خارج الوطن اعمل هنا علّ هناك فرصة أخري لكى أحصد ما زرعته من حب ووفاء وأجنى ثمار حبنا ونجتمع .. لم أنساك ياورد ..فقط اخذت عهد بينى وبينى ألا أعود إلا وأنا أستحقق ..
كونى بخير يا وردتى .. وسيأتى عما قريب ربيع إلتقائنا وسنزهر سويًا ..
إليك يا”عُمرى” ..
دائما ما كنت أجد فى قربك أمان لم اذقه إلا فى حضرت وجودك ..والآن أذقة فى حضرت كلامك .. لطالما كان انتظارى يستحقك أذكر تلك الأيام يا عزيزى ،وكنت اظن أن غيابك عنى بعض الأيام اسوء ما قد يحدث لى ،لكن للقدر رأي آخر فقد كان هذان العامين اسوء وكأنها سنوات عجاف على قلبى .. أذكر حين اعترفت لى بما تود إخباره منذ زمن ولم تفصح عنه لكن عيناك قد فعلت منذ وقت بعيد .. وهيهات من فواجع القلب وآلامه ،فإنها آلام تسطيع صهر الحديد مابالك بمدغة القلب! … لن تصف لك حروفى مدى ألمى عندما أتيت لنا أنت ووالدك واختلف الوالدان سويًا واشتدت الحرب الكلامية بينهما وحينها اذا انكسرت انت شبرًا فأنا تحطمت أضعاف .. بعد رحيلك دخل علي أبى فى غرفتى وقال:
ورد ! أولئك الناس لن أناسبهم أبدًا ولو انطبقت السماء على الأرض ، وهذا الرجل المتعجرف المتكبر لن اضع يديه بيدى فى يوم من الأيام ..أما أنت .. فعدينى بأنك لن تتحدثى مع هذا الشاب الطائش مرة أخري وان لم تسطيعى أن تكملى هذا الفصل الدراسى الأخير فى هذه الجامعة فسأنقلك إلى أخري
لكنه يحبنى يا أبى ! وانا اعرف ذلك جيدا !
ماهذا إلى خلجات من مشاعر ،مصيرها إلى زوال .. هذا طيش شباب ..والشاب ليس مناسبا و أهله كذلك ..لذلك عليك أن تعى ماذا تفعلين ..
حسنا أبى ..
بل عدينى بأنك لن تتحدثى معه طوال هذا الفصل وإن حدث وتحدثتى معه فلا انت ابنتى ولا أعرفك
حسنا أعدك ..
لذلك لم يكن علي لأتحدث معك طوال هذا الفصل الدراسى فى العام الأخير لكلانا ..كما فعلت أنت أيضا لم تكن حتى تنظر إتجاهى .. هيهات على هذه الدنيا تجعل من تتمازج أرواحهم فى لحظة غرباء ، لكنى لم أقوى على تنفيذ الوعد إلى النهاية فهذا قلبى قد مضغة الألم مضغا ومزقته أشواك الإشتياق تمزيقًا ..لذا كان لابد علي أن أرسل إليك رسالتى تلك .. عليك السلام أينما كنت وعلى قلبك حبى أينما حللت ..
إلى حبيبتى الصدوقة ووردتى “ورد”
وعليك السلام والكثير من الحب ..
أذكر تلك الأيام واضحة جلية كأنها حدثت بالأمس .. كما أذكر يوم تخرجنا .. لطالما كان هذا اليوم حافًلا بالفرحة والأمنيات التى تحققت فى أحلامى ،لكن جاء الواقع وصدم قلبى بما لم أكن أهوى .. فقد كان يومًا بائسا حينها كنت أنا فى مشارق الدنيا وأنت فى مغاربها رغم أننا نجلس فى مكان واحد ..كل منا غريب عن الآخر .. لذاك كانت وستظل هذه الذكري اسوء ذكريات حياتى .. هيا نخرج من هذا الحزن ونسترجع سويًا أيام ابتسامتنا..
تذكرين نقاشنا حول وصفك لى بعامود الكهرباء ! حينها قلتِ لى :
انت أشبه كثيرًا بعامود الكهرباء ،طول بلا فائدة
وأنت تشبهين المصباح الكهربائى لا تصلح إلا إذا علقت
حينها ضحكتى ضحكات مدوية مازال صداها فى قلبى وقلتِ:
لكن المصباح يضىء لمن حوله ويُعلق حتى ينشر ضوئه فى أكبر مساحة ممكنه ،أما العمود فلا فائدة فيه
لكن العمود دائما ثابت أما المصباح فدائمّا ما يحتاج التغيير
لكن يبقى العامود دائما فى إحتياج لمصباح ولن يكون للعمود فائدة ولا قيمة إلا إذا تواجد معه المصباح !
وأيضا فالمصباح بلا فائدة إذا وجد على الأرض !
المصباح من زجاج ،رقيق ويخدش أيضا ولا يصلح له إلا أن يكون فى مكان ساميا عاليا ،لذلك إن لم يوجد فى عامود الكهرباء فسيكون فى مكان عالِ أيضا وسيكون منيرًا على أية حال ،أما العامود بدون مصباح لن يكون شىء
غلبتنى كما تفعلين دائما
حينها استسلمت ليس ضعفًا منى بل اعجاب بما قلتِ ، لطالما كانت أحاديثنا هكذا ياورد ،تحمل بين طياتها الكثير من المعانى والكثير من الحب لتسامح كل منا فى أن يستمع لنقاش الآخر وإن غُلب _وكثيرًا ما افعل_ كانت لتلك النقاشات أثرها العظيم فى قلبى .. لطالما أحببت نقاشاتك ،سأعود غدًا يا يا”وردة عمرى” وسنزهر سويًا .. وسنعاود نقاشاتنا التى لا تسير على طريق واحد يوما إلا إنها كانت أكثر الطرق متعة بالنسبة لي …
فى المطار ..
انتظرك هنا منذ الصباح الباكر وكأننى أنتظر حلم ليتحقق
ضم يدى بشدة وقال:
وانا كنت على يقين أننى سأراكِ هنا .. أشتقتك كثيرًا يا “وردتى”
وانا اشتقت إلى “وردتى ” منك
افهم من هذا أنك اشتقت إلى سماع صوتى يناديكِ أم أنك اشتقتِ للوردات التى كنت أهديها أياك
اختر ما يعجبك فيهم
لم أنس الوردة أبدا فها هى .. وردة تليق ب “وردتى”
واعطانى وردتى التى أفضلها وهى”زهرة التيوليب البنفسجية “
هيا بنا إذا ..
لأين؟
لبيتك .. والآن كلى رجاء أن يقبلنى والدك .. فها انا حرمت أبى وأمى وأحتاجك أن تكونى كلاهما
البقاء لله لم اعرف بوافاة والدك
سبحان من له الدوام .. اقدر ذلك .. هيا بنا
ذهبنا من المطار مباشرة لمنزلى وتحدث لأبى فى البداية رفضه ،لكنه مازال يلح عليه حتى وافق .. وكتبنا الكتاب وتزوجنا …
الحب وإن كان قدرًا فإن إستمراره قرارًا حاسمًا يحتاج لرجل وصبرًا جميلاً يحتاج إلى إنسانة وفيه صادقة .. الحب هو تطابق أرواح فى جسدين مختلفين .. من لقى روحه فى جسد آخر فليحافظ على هذا الآخر حتى تفنى السماء وتخر الجبال … والسلام على كل محب صدوق صادق الوعد ..