انتهت المرافعة سيدي القاضي
الجزء الأول
بقلم: أحلام رحالي
أريج عطرها قد ملأ المكان، سبقها في العبور والمضي قدما لأميال، ها هو حذاؤها ذو الكعب العالي يسمع صدى صوته العذب فتصدح به الأرجاء، محاميةٌ فتيَّة، شابَّةٌ شامخة، رائدةٌ في ميدانها، مُهْرةٌ ثابتة الخطا، خَطِيْبَةٌ فصيحةٌ، قويَّةٌ الحُجَّةِ، عذبة المنطق، متزنة اللُّبّ عظيمةُ الفؤاد، تسير بخطواتٍ قاطعةٍ؛ هي أشبه ما تكون بضربات مطرقة تنهال على رأس مسمار، مرفوعةُ الهامِ ذات جلال ووقار عظيمين، تخترق القلوب، تفتك بالصدور وتأسر العيون؛ تنفذ إلى الأعماق فتجلو الخبايا كما يفتت الحديد جلامد الصخور، ممشوقة القوام، مرفوعة الرأس، عزيزة النفس، مرموقة المقام، محفوظة القدر، تسطِّر لذاتها أمجادا لا تجارى كما يصول الجندي في ساحات الوغى ويجول بلا وجل وبلا كلل.
عيونها تثقب الجدران قبل النفوس من شدة رمقتها؛ ترتعد من نظراتها الخصوم، مفرداتها منمقةٌ متراصَّةٌ في أبلغ بيان، تختال في حُلَّتها السوداء وتشرق كما الشمس في روبها الرسمي فتسرق القلوب وتأسر العيون، تعزف بلغتها البليغة وأسلوبها الفصيح سيمفونية المرافعة فتقنع عصَّى الألباب وتفتح مغلق الأفهام، غزالةُ رِيمٍ ذات هندام رفيع وذوق بديع، تحمل محفظتها بيد حانية، قد رتبت بداخلها الملفات ونسَّقت بطيَّاتها المذكِّرات، تخاطب عملاءها برقة وليونة وتناقشهم بلطف وثبات؛ تفترس كل من سولت له نفسه أن يتملقها بكلمة أو رام لوهلة أن ينال منها نذير استحسان.
أنّى لها بهذه الثقة المطلقة؟! وأيان لها كل هذه المَنعَة، وجُلُّ هذا الكبرياء؟! ساحرة بلا طقوس سحرٍ وآسرةٌ بلا طرائق دَجَلٍ، سلطانةٌ تلهو بالهامات بلا نفوذ وبلا سلطة ومليكة على القلوب بلا عرش وبلا تيجان.
الكل يعرفها، الكل يحترمها، والكل يسعى لنيل رضاها؛ لطفا منك وتفضلا يا عالية المقام اقبلي قضايانا وتجلدي للدفاع عنّا في أروقة محاكم الأُسْدِ يا أروع من أنجبت النساء؛ رجال ونساء، كبار وصغار قصدوها للدفاع عنهم صباح مساء.
أمها الغالية أسمتها أمل؛ وكان لها من اسمها وافر الحظ وبالغ النصيب، هي أمل كل مظلوم، وجحيم كل ظالم، وسهم نافذ في تلابيب كل جهول. في عقدها الثالث من العمر، تغمرها الحيوية، تشع روحها بهجة، وتغدق ذراتها نشاطا.
أمسها كحاضرها، ويومها كغدها، تنزع حذاءها فور دخولها إلى بيتها، تعلِّق ثياب المحاماة على شماعتها القائمة في بهو بيتها الفخم، تسترخي متأرجحة على كرسيها الخشبي الهزاز، تطلُّ من نافذتها الذهبية البَهيّة على مرأى حديقتها الغنَّاء، يفوح في محيطها أريج الفلّ، وعبير الياسمين، وتسمو هائمة في رونق الجوري وتسبح في بهاء الخزامى على الدوام.
ترتشف قهوتها الملكية وتتناول معها قطع الشيكولاتة السويسرية، تُطرِب آذانها بشجي الألحان وتهذب روحها بسائغ الأغنيات، حبّ وعشق، ثومة وحليم، فيروز والأطرش، الصافي وأسمهان، مفردات وأنغام، مشاعر وتعبيرات، مواقف وذكريات، تنسلخ من واقعها الصلب المتجمد وتنساب بين وابل الأفكار وغدق الأمنيات.
حليمة، متأملة، سعيدة، مرحة، ناعمة، رقيقة، بريئة، صافية، بسيطة، حانية، نقية القلب، جليلة القصد، رحيمة بالجميع وإن لم يرحمها أحد، لطيفة متسامحة وإن كانت ذات تنشئة قاسية.
لطالما شكرت ماضيها على صلابته معها وشدته عليها؛ فها هي قد استوعبت جُلَّ دروسه، تتناغم مع حاضرها وتتصدى لمعوقات مسيرتها بكل صمودٍ وأنفةٍ ومنعَةٍ ورسوخٍ، نفسها تروم السحاب وشخصيتها تَفِلُّ الحديد، لطمتها الحياة مرارا وتكرارا لذا أقسمت وقت حصولها على رخصة مزاولة مهنة المحاماة على رد الإساءة بالإحسان، عزمت على تقديم العون لكل يائس وبث الأمل في وجدان كل بائس، عزمت على معاونة كل ضعيف ونجدة كل ملهوف، أناس بسطاء تفانت في خدمتهم، وآلت على نفسها الراحة حتى ترد الحق إلى أهله.
شخصية ناجحة مجتهدة لم تفشل في قضية تولتها من قبل قط، تعتذر لنفسها كل ليلة وتتأسف لحالها على ما فعلته بروحها من أذى وما أسدته إلى وجدانها من قسوة مفرطة، أنست بها الحياة بعد عَتِيِّ هجران، واحتضنتها الأيام بعد كَثِيرِ خذلان، نُزِعت الأقنعة وكُشِف الغطاء عن مستور الألباب، أولئك الذين قاسمتهم أتراحهم قبل أفراحهم وكانت قرينا لهم في المضرات قبل المسرات، دمجتهم في محيطها، مزجتهم بكيانها، وخلطتهم بروحها ها قد كشفتهم على حقيقتهم لها الأيام، ستكون في أمس الحاجة إلى وقت تلو آخر حتى يستوعب ذهنها كل هذا الانهيار.
يوما ما وبعد فراغها من مرافعتها أمام هيئة المحكمة فوجئت بدنو شخص غريب منها حينما همت بالخروج من القاعة؛ رمقته بنظرة فاحصة قاصمة وكأنها تقول له بنبرة حادة: “من تكون أنت لتعترض طريقي يا هذا؟!”، وإذا به كهل قد تجاوز الخمسين من عمره، ذو هندام أنيق، وسيم المحيا، رائحة عطره فاقت عطرها بكثير، شعره أسود كالليل الحالك ويتوسطه الشيب بلونه الأبيض الناصع، بدا كلوحة بهية الشكل وفيرة الألوان، ذو شارب مهيب اعتنى به عنايته برابطة العنق. عاجلها بسؤاله لها عن إمكانية قبولها للمرافعة في قضيته، وعن مدى احتمالية تصديها لمهمة الدفاع عنه أمام هيئة المحكمة فأجابته قائلة: “ليس هذا وقته ولا حتى مكانه؛ زر مكتبي إذا أردت؛ انتهى الكلام؛ سلام”.
خرجت من مبنى المحكمة مسرعة بينما هو مصاب بالذهول متجمد في محله، من هذه المرأة؟ وما سر هذا الجبروت؟!، ألا تعرفني؟!، ألا تقدرني؟!، كيف تحدثني بهذه النبرة؟!.
ذهب من فوره متوجها إلى مكتب رئيس المحكمة قاصدا صديقه المقرب؛ وقد استشاط منها غضبا، دخل عليه وقد ثارت ثورته؛ هدَّأ من روعه واستفسر منه عن سر حالته العصبية تلك فأخبره بالقصة؛ وعاجله بطلب غريب بما أنه يعلم سلفا بقصصه الغرامية مع نساء كثر؛ هل بإمكانه أن يرسل لها إحدى نديماته لتلين له رأسها المتحجر وليكسر عزة نفسها من خلال طرق صاحبه الملتوية؟ بالفعل امتثل لأمره وبعث لها سكرتيرته الخاصة لتتحدث معها بشأنه.
وصلت إلى مكتبها على وجه السرعة وأخبرتها عن عميل يطلب خدماتها ويطلبها هي بالاسم؛ وافقت على مقابلته وسمحت له بالدخول، وبعد ثوانٍ معدودة من خروج السكرتيرة فوجئت أمل برائحة نفس العطر الذي داعب أنفها في ساحة المحكمة منذ قليل، رفعت رأسها وإذا بنفس الشخص يقف على بعد سنتيمرات منها؛ حيَّته وطلبت منه الجلوس ثم سألته: “ماذا تريد؟”، قال لها: “وماذا يريد رجل من محامية؟؛ عندي قضية”، فأجابته: “اسرد قضيتك؛ أسمعك”.
قال الرجل: “لدي قضيتان؛ الأولى سرقة والأخرى بيع”، وللحظة همت بالكلام فرنَّ هاتفها، ردت على المكالمة ثم اتجهت إلى زاوية بالمكتب لتبكي؛ يفاجئها بوقوفه خلفها في تلمس منه لرد فعلها لتصفعه بردة فعل عنيفةٍ جدًّا ومحفوفةٍ بلمسةٍ رقيقةٍ أيضًا “قتلٌ صامتٌ”؛ قالت له بكل ثقة وهدوء: “إن لم تبتعد فورًا فبإمكاني أن أكسر رجلك بضربة ٍواحدةٍ بحكم أني حائزة على الحزام الأسود في رياضة الكاراتيه؛ إياك أن تخطو للأمام خطوةً واحدةً ولأني محامية سأرفع دعوى ضدك بحجة الدفاع عن النفس، ولنرَ من سيصدقك حينها؟”، فَرَّ من مكتبها واضعا يديه على رأسه من هول ما رأى وما سمع وهو يردد: “أنت مجنونة؛ سترين ما سأفعله بك؛ ستتوسلين إلي يوما ما لأعفو عنك”، ردت عليه بكل ثبات وعيون تتراقص فرحا: “أعلم أني مجنونة، عنيدة أكثر مما تتصور؛ إن استطعت أن تكسرني فافعل”.
