دراسة نقدية حول المجموعة القصصية “ميكاديميا” للكاتبة سارة ممدوح
كتبت غادة سيد
يوجد النقد متى وجد الإبداع
فكما أن للنقد فضلٌ على المبدع في تصحيح مساره وتقوية نقط ضعفه وإبراز جماليات موهبته، فالإبداع لا يقل فضلا عن النقد. فهذا العلم الواسع بمدارسه وأعلامه و مرتكزاته ومراحل تطوره لم يكن ليرى النور إلا من خلال بؤرة المبدع.
الإبداع هو من أوجد النقد بغلاف سريالي كاريكاتيري تتزاحم عناصره وأفراده في فوضى عارمة وعدم تجانس لكن تسعَهم وحدةُ المكان يتقابلون رغما عنهم و تتقاطع دروبهم يلتقي الأضداد مصادفات مدبرة.. هم مجبرون على شغل كل حيز في الفراغ، فلا مهرب منه إلا إليه. على الصمود والإلتئام رغم جروحها النازفة.
يقبلون الدنية ويدعون الرضا الذي سرعان ما يتحول لاحباطات قد تفضي إلى الإنتحار على أعتاب الصبر.
مجموعة قصصية للكاتبة سارة ممدوح من مائة وأربعة عشرة صفحة.. اتخذت من عنوان أول قصة عنوانا لها “ميكاديميا”.
ثمان حكايات منفصلة متصلة. يجمع بينَها ما أشارت إليه الكاتبة في مستهل عملها.
هي لم تكتب مقدمة أو إهداء. لكنها جعلته تنبيها لكل من تآمرت عليه أفكاره وجذبته بعيدا عن زمنه إلى عهد آخر بعيد. لكل مدمني العزلة من مفرطي التفكيرإليك هذا العمل.
وجهت هذا العمل إلى ذاتها السابحة في ملكوتها الخاص. جعلت منه نذارةً لكل هؤلاء وتحذيرا من التيه الإرادي إلى عوالم نخلقها عند فقد التواصل مع واقعنا الذي نختار أن نعيشه من الخارج دون تفاعل حقيقي إلا مع رغباتنا وشطحاتنا.
ثمان قصص تتوسطها (الأستاذ).. وهي القصة الأكبر والتي أخذت حقها ووقتها ومساحتها التي طغت على ما سواها من حكايات. وكأنما الفت هذ المجموعة وجمعت حكاياتُها من أجل هذه القصة التي أظن أن لم يكن موجودا سواها ثم تبعها باقةُ ورودٍ تلتف حول عروس.
من قضايا النقد الهامة قضية الشكل والمضمون .. اللفظ والمعنى .. الصورة والعاطفة .. الصياغة والفكرة مسمياتٌ عدة لمعنى واحد.
فحين اهتمت المدرسةُ الشكليةُ التي نادت بأدبية الأدب” ان يكون للنص لغته الادبية الخاصة” فقد اهتمت بالشكلِ وغلبته على المضمون وكان من أنصارِها الجاحظ حيث قال: المعاني مطروحة في الطريق وانما الشأنَ في اختيار اللفظ وجودة السبك
وابن خلدون قال: صناعة ُالكلامِ في الالفاظ لا المعاني.. وقيل. يكفى المعنى أن يكون صحيحا. أي المعنى لا إبداع فيه فالإبداع يكمن في الصياغة.
ناصر أخرون المعنى وغلبوه على اللفظ.
كعبد القاهر الجرجاني الذي أعاد للنص قيمته الادبية عندما أكد على أسبقية المعنى على اللفظ . وأيضا المازني و العقاد و عبد الرحمن شكري وغيرهم من نقاد مدرسة الديوان
بينما كان إبن ُ رشيق يدعو إلى التكامل بينهما وأكد على أن اللفظ جسم والمعنى روح ولا يجوز الفصل بينهما.
كذلك قال الشاعر والفيلسوف البريطاني صامويل تيلر كوليردج الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة ويشكلان الوحدة العضوية للعمل الأدبي.
ومن أقوال الفيلسوف الالماني كانط في هذا الشأن:
العاطفة بدون الصورة عمياء والصورة بدون العاطفة جوفاء. العاطفة المضمون والصورة الشكل
كان للكاتبة سارة ممدوح رأيها الخاص الذي انضمت به لإحدى هذه المدارس الثلاث. فقد آثرت التكامل بين الشكل والمضمون
فيظهر في المجموعة وحدة النسيج رغم تنوع الحبكات. شخوص تجمعهم فكرة ٌواحدةٌ هي النظر إلى حياتهم من خلال نصف الكوب الفارغ. فينكسر الضوء القادم من حيث النعم التي حباهم الله بها ليقع على نقطة عمياء بعيدة عن الشبكية فتغيب معالم الصورة وربما لا تصل إلى اعينهم مطلقا. فلا يبصرون إلا الإخفاقات وعقد الماضي و إنقضاء الذكريات الحلوة ورحيل الشباب وفتور الحب.
سرد راق في وحدةِ مادته. متوازن في تناغم وإنسجام وترابط بين مكوناته. ذو مركزثقل بصري ملائما للحالة التي تتحدث عنها والشخص الذي تعرفنا على مكنوناته.
فحين تكتب عن الرجل تسبر أغواره وتطلع على أدق تفاصيله ومعتقداته. تفكر و تكتب كرجل عربيد أو حانق أو مراوغ أو أناني أو محبط ويائس. وحين تصل الكرة إلى ملعبها فهي تتحدث عن المرأة المحبة المعطاءة القانعة الخانعة بائعة الحب.
قيم جمالية تميز كتابَتها تجذب الحواس سمعيًا وبصريًا وتأسرها بما تملُكه من تنوع في الجمل البلاغية ومفردات الحوار وجرأة متناهية الوضوح والمكاشفة. بل تتشارك الحواس الخمس في إبراز ذلك الجمال.
تقول في قصة ميكاديميا على لسان البطل:
سبع صباحات لم اتناول فيروز مع وجبتي.
أفتقد الوقوف إلى كنكتي النحاسية، اشكو لها الضغوط فتفيض علي بعبق الهيل المطحون مع حبوب البن المحمص الفاتح.
ماجدوى بناء الحضارات وبداخلي صياد ٌهاوٍ يتوق أن يهيمَ في البرية
وفي قصة (طبيب جراح) هذا الكاره لعمله بكل تفاصيله. يتبرأ من مظهر جسده المترهل . رغم استقراره المادي إلا أن نفسه تموج بعقد الماضي, فقد الأمان من أب لايشغله إلا سفره من أجل المادة والمشفى الذي يملكه في احدى البلدان الافريقية وأم رحلت بعيدا مع أختيه بدعوى أنه رجل ويمكنه مواجهة مصاعب الحياة.
وبالفعل واجهها بصدر عار فناله من سهامها المسمومة ما جعله يكتب وثيقة انتحاره بيده. ربما كان انتحارا مجازيا أو حقيقا . لا فرق.. فالحياة بلا سند هي موت لا بعث بعده.
وفي القصة الثالثة قصة (اللقاء الثاني). مشاعر مكبوتة ورهانات خاسرة رغم الاستسلام للشوق والحنين. لطرفين أحدهما ينطلق ويتطور والآخر يحاول النجاة. هو ليس لقاءً ثاني بل لقاءات ثانية وثانية وثانية، فلا جديد تحمله سوى وعد بفراق جديد.
فهو لقاء مع الذكريات، أو مع طرف لا يسعى للقاء بل ينتظر أن تحمله إليه صدفة وإن تأخرت وإن لم تأت مطلقا.
وفي القصة الرئيسية ” الأستاذ” تجتمع الانانية والاستغلال في أبشع صورها فيمن إدعى الثقافة والإبداع. إجتمع كل ذلك مع البذل والتنازل والغباء فيمن تصورت الحب.
الضعف وامتهان الكرامة ليس حبا بل هو نخاسة ورِق بوهيمي لايخضع حتى لقوانين تجارة الرقيق. فلا سبيل للعتق. فكلما بذلت من أجله زادها قيودا وتعذيبا ثم لفظا دون وداع.
فتقول: “81 وقت ما تحس ان وجودي مبقاش مهم زي الاول قولي ده بصراحة وانا هتقبل”.
سهلت عليه مهمة الابتعاد قبل ان يقكر به جعلت الامر يبدو بسيطا مع انها جادت عليه باغلى ما تملك فكانت النتيجة، لم يكن انفها وحده ينزف بل قلبها وروحها وكرامتها.
كذلك 84
حتى صعقات الكهرباء نفضت جسدها من مكانه لكنها لم تقنعها أن تعود للحياة فهذا قرارها أو ربما قدرها ان تمنح روحها يوما بعد يوم لمن اختارت له الحياة وان ترحل حينما ينتهي دورها 88.
وفي قصة (في الملكوت) هي أشبه بقصة فيلم مائتي جنيه وإن اختلفت الأحداث. فتتناول فيها قصةً تسلم لقصةٍ من خلال ابطالها الذين يلتقي احدُهم بالاخر لنتعرف على قصته التي تسلمنا الى قصة اخرى . فهكذا هي الحياة لقاءات لاغراب تجمعهم الاحداث او احباب تفرقهم الظروف ليلتقون بآخرين على موعد لم يكن مقررا ولكنه حدث وفق ترتيب قدري صارم.
في قصة (جميلة)
المعاني جميلة وفاء واعتراف وتقدير وعرفان حتى بعد الموت يستأذنها لكي يتزوج ويعرفها على من إختارها وكأنه يستشيرها في كل اموره وهي في قبرها حتى وان كان في امر الزواج.
لا تخلو كتابة سارة ممدوح من التفات ومفاجآت وتحولات. فهي تنتهج اسلوب التشويق والمراوغة وجذب الانتباه و التركيز والتعلق الواعي بما تقرأ سواء بالألفاظ أو طريقة السرد والحوار.
– فمثلا استخدمت تنعم النظر بدلا تمعن النظر 46 … تحديق وتأمل الذي يصاحبه متعة
– و تخلصه من سطلته الذاتية فقد تحسبها في البداية سلطته الذاتيةوالسطلة هي التغييب عن الوعي.
تارهٌ تنقلب من الراوي المباشر للراوي العليم ثم تعود في انسيابية تبقى الذهن حاضرا دون تذمر أو احتجاج كما في “ميكاديميا”.
طرقة عنيفة على نافذة غرفته راوي عليم .. ثم تتبعها,, رائحة الشواء تغمرني راوي مباشر
ثم أخيرا غفى وفي الثامنة استفاق راوي عليم ثم يتلوها لعلي لا أزور السرير كثيرا لنفس السبب راوي مباشر.. وهكذا تكرر ذلك مرات.
او تنتقل كما في قصة الاستاذ من احداث القصة التي تتناول مرحلة في حياة كاتب لاحداث من روايته التي هو بصدد كتابتها. وعليك كقارئ ان تبقي الذهن حاضار طوال الوقت لتميز هذا من ذاك وهو امر محمود يحسب لها.
يستهويها إيجاد علاقات تربط بين المتباينات فقد شبهت قوس قزح وعلم المثليين بعلم اسرائيل وإن خانتها احيانا المعلومة الصحيحة فيما يرمز اليه الخطين الازرقين فهما يشيران الى النيل والفرات لا دجلة والفرات 13.
والحديث عن حركة حماس والجهاد.. فالندين المتصارعين دائما هما حماس وفتح 13 في غزة والضفة
وفي قصة (اللقاء الثاني) 31 عند الحديث عن عطر جود جيرل تحدثت عن كارولينا هيراري بينما اسم مصممة الازياء الفنزويلية الامريكية هو كارولينا هيريرا.
كما كان هناك تحاملا وتحليلا غير دقيق عن الصين لكنه قد يقبل في كونه وجهة نظر الكاتبة التي تؤمن بها. فلا غضاضة في ذلك. لكن لا يجب ان نتذكر ما قلنا في البداية. أن المعنى يكفي أن يكون صحيحا فهو الحد الادنى المجزئ لقبوله.
احيانا تضيف جملا ختامية تلخص المشهد من خلال كلام سيجوند فرويد35 المشاعر المكبوتة لا تموت بل تدفن حية لتعود لاحقا بوجه اقبح.
او عبارات تحمل حكمة بين ثناياها 107 بعضنا يعيش عمرا على انقاض يوم مضى.
او قصة لمنتحر معروف 19″ عندما تحدثت عن انتحار الشاعر الروسي”.
تقرأ جملة قالها الاستاذ لسارة البطلة فبطلاتها عادة اسمهن سارة وكأنها تتحدث عن جزء منها أو عمق بعيد من أعماق شخصيتها
يقول لها صفحة 53هل اصولك لبنانية؟ فترد : لا لكن أحب اللهجات.
ويتلاقى هذا السؤال مع مثيله دار لحظة بداخلي من مطالعتي لبعض الجمل والمفردات التي تستخدمها تخبرنا انها تعايشت مع اللهجات المختلفة. كنت سأسألها هل اصولك غير مصرية.
فجاءتني الاجابة دون سؤال بما انها تتحدث عن سارة البطلة كجزء من سارة الكاتبة وامثلة ذلك واضحة اذكر منها صفحتين وهنا53 آب إلى سيارته 57 دون أن يركب رفقته 85.
فاهتمامنا بنشأة الكاتبة ولغتها و البيئة التي احاطتها في مراحل حياتها والقضايا التي تاثرت بها كل هذا يدخل في الدراسة النقدية
فلن نفعل كما فعل جيرار جينت الذي رفع شعار النص ولاشيء غير النص في منهجه البنيوي الذي يعتمد على النسق الداخلي للنص بعيدا عن اي سياقات خارجية.
وظهر مفهوم موت المؤلف الذي اطلقه المفكر الفرنسي رولان بارت ويعني دراسة النص الادبي بعيدا عن قصدية المؤلف وتفاصيل حياته فكان منهجا غير انساني.
لكني أؤيد الفرنسي لوسيان جولدمان في منهج البنيوية التوليدية.
التي مزجت بين المنهج البنيوي كمنهج نسقي داخلي ونظرية الانعكاس التي افرزها المنهج الاجتماعي كمنهج سياقي خارجي.
” نظرية الاتعكاس : قصر غاية التلقي على الانعكاسات المتبادلة بين النص الادبي وقضايا الواقع الاجتماعي الخارجي.”
بمعنى ماهي القضية الاجتماعية التي تناولها النص وكيف انعكست عليه من الداخل ” لغة وصرف ونحو ومعجم ودلالات..”
مكاديما للكاتبة سارة ممدوح مجموعة قصصية تستحق القراءة المتأنية العميقة لمن هم فوق ثمانية عشر عاما كما صنفتها.
نقاش حول الموضوع الحالي