عذرًا !! – الجزء الثاني OOPS !! 2
بقلم: أحلام رحاليّ
مراجعة: تامر إدريس
مرت أيام تلو أخرى و”كريم” قابع في زاويته المعهودة في ذلك المقهى حتى لكأنه أضحى معلمًا من معالم المكان؛ يرتشف قهوته المرة بانسيابية قاتلة، ويدخن سيجارته بشغف يحبس الأنفاس تجاهه في كل حركة يؤديها ويجذب الأنظار صوبه في كل رمقةٍ يسديها، يرسل دخان سيجارته الرقيق إرسال مودعٍ عاشقٍ بينما يتمسك بفنجانه خشية سقوطه من يده في زحام شروده وسطوة شجونه؛ يتصفح عناوين جريدته بعمق ورويَّةٍ بحثًا عن شيء لافت أو محتوىً جاذبٍ.
وما بين الفينة والأخرى يتابع المَّارة هنا وهناك خاصةً وأنَّ ذلك المقهى ذو إطلالة رائعة على محطة ترامواي كبيرة شهيرة، ينصرف فور احتسائه قهوته المرة في أحد تلك الأيام على عجلة من أمره يسرع للقاء أحدهم وما يلبث أن يصل إلى شقته في الحي القريب، يصعد الدرج ويفتح الباب وإذا بالباب يفتح على مرأىً من أروع وأبهى ما يكون؛ فتاة حسناء بهيَّة المحيَّا باسمة الثُّغر أشبه بالملاك تتجه نحوه في حُلَّتِها اليانعة وإشراقة وجهها الزَّاهِية ذات أشرطة حمراء جميلة تزين ضفائرها الذَّهبية الحريرية الناعمة وتبرق عيونها الحوراء الناعسة.
تهتف بصوت عذبٍ ذي طربٍ قائلةً: “بابا، أنا مستعدَّة، هل أبدو جميلةً؟”. سارع بتقبيل وجنتيها الورديتين وحملها بين ذراعيه مجيبًا سؤالها بقوله: “طبعا، حبيبة بابا، أنت جميلة الجميلات، هيَّا بنا لنذهب”. يلتقط محفظته الجِلديَّة ويأخذ علبة الأكل من يدي أمه الحانية، قبل رأسها وقلَّدته ابنته الغالية فقبلت يدي جدَّتها هي الأخرى وخرجا من المنزل معا وأمه تحصنهما بأدعيتها الجميلة الراقية مفادها استدامة الصحة والسلامة والعافية.
اليوم هو أول يوم دراسي لمحبوبته “جنى” في روضتها القريبة من المنزل، ركضت إلى السيارة والشغف يملؤ وجدانها والسعادة تزغرد في بؤبؤ عينيها تبتهج على غير عادتها وكأنها ذاهبة إلى فردوسها المنشود، وصلا بعد دقائق معدودة إلى مكان الروضة، خرجا من السيارة بعد إطفاء محركها ودخلا إلى المبنى ليجدا المراقبة في استقبالهما، سلَّم عليها بأسلوب رقيق مهذَّب وأودعها قرَّة عينه “جنى” بعدما طبع قبلة حانية على وجنتها الزاهرة.
طلب من المراقبة أخذ إذن له لمقابلة مديرة الروضة لكنها كانت مشغولة قليلا ممَّا ألجأه إلى الاعتذار لعدم تمكنه من البقاء في المكان طويلا منتظرًا إياها لكنه استدرك قائلا لها: “ربَّما في المساء عندما أحضر لاصطحاب ابنتي في نهاية اليوم تتاح لي الفرصة للقائها”، فأومأت برأسها وأردفت قائلة: “نعم، بإذن الله”.
كريم شابٌّ طموحٌ مولعٌ بالسفر والترحال، يعمل مرشدًا سياحيًا في شركة سياحية مرموقة، يرافق السُّيَّاح الذين يطوفون البلاد والمتوافدين عليها من كل حدبٍ وصوبٍ، يزودهم بالمعلومات القيِّمة عن المعالم ويقلِّب معهم صفحات التاريخ الشائقة، بديعٌ في أسلوب العرض قيِّمٌ في الطرح ذو صوت جهوري شادٍ كما البلابل ومحيًّا براقٍ كما الشمس في ضيائها اللاهب ومرآها الساحر.
قرَّر مؤخرًا تدشين مكتب سياحيٍّ متواضعٍ خاصٍّ به، وفور إتمام الأوراق اللازمة وتجهيز الموقع بادر إليه صديق عزيز بجلب أول فوجٍ سياحيٍّ لمكتبه الحديث فاستبشر بمطلع هذا اليوم المبارك من كل النواحي فمن ناحية شعر بارتياح شديد لتلك الروضة التي ألحق حبيبته “جنى” بها صباحا ومن ناحية أخرى ها هو على موعد باستقبال أول فوجٍ سياحيٍّ خاصٍّ بشركته الصغيرة في منتصف اليوم، ومن يدري لرُبمَّا يحدث أمرٌ آخر يسره في ختام هذا اليوم الرائع من وجهة نظره؛ فلطالما كانت دعوات أمه حاصلةٌ مجابةٌ !!.
يأتي المساء بأمنياته الحالمة ويتجدد اللقاء بحبيبة قلبه “جنى” دُرَّة التَّاج وواسطة العقد وقُرَّة العين وذخرُ الحياة، حان موعد اصطحابها من الروضة ينهي عمله، يقود سيارته متجها إلى موقع الروضة، يلتقي بالمراقبة يطلب حضور ابنته ويسأل عن إمكانية الالتقاء بمديرة الروضة لأمر هام بشأن ابنته لكنها تفاجئه بخبر مغادرة المديرة منذ دقائق لأمر طارئ. عقَّب بقوله: “لا بأس ربَّما في يوم آخر ألتقيها”. سلَّم على المراقبة بلطف ثم قفل عائدا إلى بيته برفقة ابنته الغالية.
بشغف لا يوصف استهلت جنى حديثها تابعت وبالغت وتعمقت في سردها لأحداث يومها الأول في الروضة؛ كل كبيرة وصغيرة، كل تفصيلة وإن بدت بسيطة رأتها حدثًا يستحق تناوله وبسطه، وكأنها في خضم تجربة فريدة تعيشها بكل دقائقها فالأطفال رائعون كذا الكبار والموظفون، والطعام شهي والألعاب جذَّابة، تسرد وتقص بلا كلل أو ملل بينما عينها ترقب ملامح أبيها أثناء حديثها إليه، كريم ينظر إلى ابنته بحب ولهفة عميقين ويعززها بإعجاب بالغ بحماستها فاغرورقت عيناه بالدموع إلا أنَّه تمالك نفسه أمام ابنته لئلا يحزنها.
استوقفته فجأة قائلة: “لحظة؛ أبي، كانت هناك سيدة رائعة جدا وحنونة، كانت تمرُّ على الأطفال؛ تقبلهم وتحتضنهم، وتعطيهم ألعابا جميلة، وتكافئهم بحلوى لذيذة، أعطت كل طفل من الموجودين لعبة صغيرة وطلبت منهم أن يدخلوا إلى الغرف بهدوء تفاديا للاصطدام. كانت الغرف واسعةً وجميلةً ألوانها زاهيةٌ، ومليئةٌ بالدمى والألعاب والعرائس الرائعة؛ طلبت مني هذه السيدة أن أختار لعبة أو عروسة تكون رفيقتي طول العام كما طلبت من الأطفال ذلك أيضا، وعدتنا بأن من يتفوق ستمنحه الروضة تلك اللعبة أو العروس كهدية في نهاية العام. ضحك الأب بشدة وقال: “جنى حبيبتي هذه أقسام وليست غرف، أنا سعيد جدا بشغفك هذا يا صغيرتي”.
بقيت جنى على هذه الحال طويلا تحكي وتقص وتسرد وتصف طيلة الوقت وكل الأيام والأب ينصت ويستمع ويصغي ويُسَّر إلى أن انتهى الفصل الدراسي الأول وحلَّت عطلة الخريف فقرر أبوها أن يحفزها ويكافئها بنزهة مستحقة بعد عمل جيد، قال لها: “حبيبة بابا نامي باكرا لتستيقظي باكرا غدا عندي لك مفاجأة ستسرك حتما”.
جنى: “أبي؛ هكذا بدأنا العطلة، هذا ما قالته لنا الجميلة؛ أنسيت؟!”. الأب: “الجميلة!!، من تكون؟!، آه منك!!”. جنى: “لم يعد للأمر أهمية”. كريم: “لا بأس حبيبة أبيك أنا أيضا في عطلة وسنستمتع معا لا تقلقي”.