“غزة وأصحاب الأخدود
“بقلم ناصر السلاموني
في غزة، النار لا تنطفئ، والسماء لا تمطر معجزات، ولا الجدران تنهار على رؤوس الغزاة، ومع ذلك… ما زالوا ثابتين. تُحاصرهم الجيوش، وتنهال عليهم القنابل، وتُطمر أحياؤهم تحت الركام، لكن قلوبهم لا تذل، وعزائمهم لا تنكسر، وكأنما خُلقت غزة لتقول للعالم: إن الإيمان ليس بكثرة العُدة، بل بثبات القلب.
ووسط هذا الجحيم المفتوح، يتساءل الناس: أين الله؟ لماذا لا يتدخل؟ لماذا يُترك الأطفال تحت الأنقاض، والنساء بلا مأوى، والمآذن تحت الردم؟ والسؤال نفسه قديم، قديم جدًا، سبق وأن سُئل أمام نار تتأجج وتبتلع أجسادًا طاهرة، وصرخة واحدة تملأ الزمان: “ربي الله”.
هكذا احترق أصحاب الأخدود. أناس آمنوا، ثبتوا، فما جاءت الملائكة، ولا فُتحت الأرض، ولا أُطفئت النار. كانوا يُحرقون على الملأ، ولم يحدث شيء… في الظاهر! لكن السورة لم تبدأ بألمهم، بل بدأت بحكم الله: “قُتِل أصحاب الأخدود”، أي أنهم، رغم جبروتهم، هم المهزومون الحقيقيون.
ما أشبه غزة بأصحاب الأخدود! الصورة مؤلمة، العدسة تمتلئ دمًا، والحق مُحاصر، والباطل مُنتفخ بسلطانه، لكن في المقاييس الإلهية، ما يحدث ليس هزيمة، بل اختبار. فالله لا يُقيم العدل دائمًا في الدنيا، لأنه يُريد منك أن تؤمن بالعدل في الآخرة. يُريدك أن ترى بعين الإيمان لا بعين الحدث. “ذلك الفوز الكبير”… لا في الأخبار، بل في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
غزة اليوم تختبر العالم. اختبار للقلوب المؤمنة، واختبار للذين يعبدون إنسانيتهم، واختبار للمنافقين الذين يظهرون الرقة ويخفون الخيانة. والله تعالى لا يختبر غزة وحدها، بل يختبرنا جميعًا، مسلم وغير مسلم، مؤمن ومُدّعٍ، ناطق ومُطبّع، مَن يدعو ومَن يسكت، مَن يبكي ومَن يُوقّع.
إن أهل غزة لا يُقتلون لأنهم ضعفاء، بل لأنهم أقوياء بالإيمان. لا يقاتلهم العدو إلا من وراء جدر، لا يجرؤ على مواجهتهم، لأنهم في الحقيقة مرعبون. كم جنديٍّ نام مرتعشًا، وكم قائدٍ فرّ إلى الملاجئ، وكم جبانٍ احتمى بالدروع وهو يملك طائراتٍ وقببًا حديدية! هؤلاء الذين “لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى”.
الرعب في قلوبهم ليس من الصواريخ، بل من الصبر، من الذين لا يخافون الموت، من وجوه الأطفال تحت الركام، من رجالٍ لا تزلزلهم الجراح، ولا تُضعفهم الخيانات. هؤلاء الذين إن قالوا “الله أكبر”، ارتعدت فرائص جيشٍ بأكمله. هؤلاء الذين إذا حوصِروا، زادوا، وإذا جُوِّعوا، صبروا، وإذا خذلهم الجميع، توكلوا على الله، وقالوا: “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”.
المعادلة في غزة ليست سياسية فقط، بل كونية. هي مواجهة بين فسطاط الإيمان وفسطاط النفاق، بين من يتاجر بالدم، ومن يرويه لله. ولو كانت الدنيا هي ميدان العدالة، لانتصر أصحاب الأخدود، وأُنقذ أطفال غزة، لكن الله يُعلّمك أن النصر لا يُقاس بالزمن، بل بالثبات. وأن الفوز لا يُرى في الإعلام، بل في كتاب رب العالمين، حيث قال: “ألا إن حزب الله هم الغالبون”.
إن الله يختبرك، لا ليُهلكك، بل ليطهّرك، ليظهر ما في قلبك. فإن كنت من أصحاب العزة، فاصبر، وثق، وقل كما قالوا: “ربي الله”، ولو احترق الجسد. وإن كنت متفرجًا، فانظر: هل عينك تبكي أم قلبك أعمى؟ وإن كنت خاذلًا، فاعلم أن البطش آتٍ لا محالة: “إن بطش ربك لشديد”.
غزة اليوم ليست وحدها، وإن بدا في الصورة أنها محاصرة. معها السماء، معها التاريخ، معها وعد الله. أهلها الذين صبروا في الخنادق وتحت الركام، هم الشهداء الذين يُغسلون في نهر البيض، ويُبعثون وفودًا إلى الجنة، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم. إنهم أهل عسقلان، عروس الجنة، الذين قال عنهم: “سبعون ألفًا لا حساب عليهم، وخمسون ألفًا شهداء، رؤوسهم في أيديهم، يثجّ أوداجهم دمًا، يقولون: ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك”.
إنهم لم يُنسوا، ولم يُتركوا. بل الله كان “شهيدًا”، “ودودًا”، “غفورًا”، يرى، ويعلم، ويجزي. وقد خُلد أصحاب الأخدود في القرآن، كما سيُخلَّد أهل غزة في سجل السماء.
فيا أهل غزة… اثبتوا، واصبروا، فما أنتم إلا صورة من ملحمة قديمة، أبطالها لا تُنسى. ويا من ترون ولا تتحركون، تذكّروا أن الله يختبركم كما يختبرهم، وأن الصمت خيانة، والسكوت عن الحق موت بطيء.
ويا من تدعون الإنسانية، ها هو الميزان، فاختاروا: مع أصحاب الأخدود أم مع من أوقد النار؟ مع الطفل الذي يُقتل وهو صائم، أم مع الطائرات التي تحرق البيوت؟ مع الذين سُجّلت أسماؤهم في السماء، أم مع الذين باعوا الضمير وركعوا على أبواب الباطل؟
وختامًا نقول، بملء القلب واليقين: “إن مع العسر يسرا”… وليس بعد النار إلا الجنة، وليس بعد الصبر إلا الفتح، وليس بعد الدم إلا نورٌ يضيء طريق العابرين إلى السماء.