أصحاب الملاليم وأصحاب الملايين
بقلم نشأت فى صموئيل
إننا في هذه الدنيا نعيش وسط تناقضات تشعل القلب وتستوقف العقل وتستدعي التأمل، ومن بين هذه المفارقات نجد تزاحمًا وتصارعًا على مقعد واحد له أكثر من وجه وأكثر من دلالة.
فهو يظهر تارة لأصحاب الملاليم، وتارة لأصحاب الملايين، ويتجلى أيضًا للجهات المسؤولة وأصحاب ومديري الشركات.
فنحن أمام مشهد يتكرر كل صباح، يمثل لوحة تستعصي على النسيان حين ترى أصحاب الملاليم يقفون متزاحمين على أرصفة المواصلات بأجساد منهكة، وقلوب مثقلة، وعيون ضاقت من طول الانتظار، يترقبون باب الحافلة كأنه بوابة خلاص بعد نضال يومي استنزف قواهم، وكل هذا قبل أن تبدأ معارك يومهم الحقيقية في ميادين العمل وقاعات الدراسة.
وفي المقابل، هناك آخرون يلهثون وراء مقاعد أخرى، مقاعد يلتف حولها بريق السلطة ورنين النفوذ، فينفقون عليها الملايين في مسارات خاطئة، بينما يغفلون أن الطريق الأصدق لتلك المقاعد يمر عبر الالتفاف إلى قلوب أصحاب الملاليم والإنصات لمعاناتهم، تلك الوجوه المنهكة التي تنزف تعبًا كل صباح.
حين يتم توجيه جزء من هذه الملايين لتوفير حافلات تحافظ على كرامة البسطاء وتخفف عنهم مشقة الطريق، لكان ذلك أبلغ رسالة وأصدق برهان على أحقيتهم بأي مقعد يسعون إليه، ومثال وطني شريف يحتذى به.
ولعل الرسالة الأوضح هنا يجب أن تُوجه إلى أصحاب الملايين، أولئك الذين يطمحون في مقاعد السلطة، وأن يعلموا أن خدمة البسطاء أقوى من أي تحالفات أو صفقات، وأن القيمة الحقيقية لا تقاس بما يُدفع لأجله من أموال، بل بما يتركه من أثر في حياة الناس. فلتكن مقاعد السلطة انعكاسًا لمقاعد البسطاء، وأن الفوز الحقيقي ليس في حيازة المقعد بقدر ما هو في استحقاقه، ومن أدرك أن خدمة أصحاب الملاليم هي طريقه الأصدق فقد امتلك في قلوب الناس الشرعية التي لا يمنحها المال ولا تحصنها الصفقات.
ومن هنا أيضًا تبرز المسؤولية الأخلاقية والوطنية على عاتق مقعد أصحاب الشركات الكبرى ومديريها بالتنسيق مع الأحياء. فمشاركة حافلاتهم لساعتين في الصباح كفيلة بمساعدة العديد من العمال والطلاب على الوصول بكرامة ويسر. فالمشاركة المجتمعية ليست تفضّلًا، بل التزام راسخ ينعكس خيره على الجميع ويحظى باحترام المجتمع.
كما يجب على مقعد المسؤولين وأصحاب القرار تشغيل حافلات إضافية في وقت الصباح لحسم هذه القضية، إيمانًا منهم بأن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الأكبر والأجدى والأبقى. فالمجتمع الذي ينهض بأضعف فئاته هو ذاته الذي يفتح أبواب القوة والازدهار لكل أبنائه.
إن المعنى الأعمق في رمزية المقاعد يذكرنا بأن مقاعد المواصلات تمثل معاناة البسطاء، ومقاعد السلطة تكشف اختبار الاستحقاق الحقيقي، ومقاعد الشركات تكشف مدى واجبهم الأخلاقي في خدمة مجتمعاتهم، أما مقاعد المسؤولين فتكشف عن أداء واجباتهم نحو الوطن والمواطنين.
إن الاعتبار والقوة الحقيقية للقادرين من أصحاب الملايين تكمن في تقديرهم للبسطاء من أصحاب الملاليم.