أيام سلطان القاسمي في القاهرة
سيناريو و حوار : خالد سالم
المشهد الأول: وصول الطالب الحالم
في صيف عام 1965، وقف شاب يبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً على رصيف محطة مصر في القاهرة، حاملاً حقيبة جلدية بسيطة وحلماً كبيراً. كان سلطان القاسمي قد ترك خلفه دفء الخليج وقسوة الصحراء، ليدخل إلى عالم جديد تماماً – عالم النيل والأهرامات والمعرفة.
رفع رأسه نحو السماء الرمادية، واستنشق هواء القاهرة المختلط برائحة الياسمين وعوادم السيارات. كان يعلم أن هذه المدينة ستغير مجرى حياته إلى الأبد.
“يا رب، اجعل هذه البداية خير بداية”، همس في سره وهو يتجه نحو كلية الزراعة.
المشهد الثاني: في أروقة كلية الزراعة
داخل قاعات كلية الزراعة، جلس سلطان في الصف الأول، عيناه تتابعان بشغف كل كلمة يقولها الدكتور محمد الطاهر، أستاذ المحاصيل الحقلية. كان الأستاذ من الجيل القديم، يحمل في طياته عبق الماضي وحكمة السنين.
“الزراعة يا بني ليست مجرد علم، بل فن وشغف وحب للأرض”، قال الدكتور وهو يشير إلى خريطة مصر المعلقة على الجدار.
بجانب سلطان، همست زميلته نادية، طالبة من الصعيد بعينين براقتين: “هذا الأستاذ درّس والدي قبل عشرين عاماً. يقولون إنه يستطيع أن يجعل الرمل ينبت قمحاً!”
ابتسم سلطان، وكتب في دفتره: “أريد أن أتعلم كيف أجعل صحراء الإمارات تزهر خضراء”.
المشهد الثالث: في مكتبة الأنجلو المصرية
في شارع محمد فريد، دفع سلطان باب مكتبة الأنجلو المصرية العريقة. استقبله صبحي جريس بابتسامة دافئة، كما لو كان ينتظره منذ سنوات.
“أهلاً وسهلاً بالطالب الخليجي. ما الذي تبحث عنه اليوم؟”
“أريد كتباً عن الزراعة في المناطق الجافة، وعن تقنيات الري الحديثة”، أجاب سلطان بحماس.
تنهد صبحي جريس وهو يتجه نحو الرفوف: “هذا ما أحبه في الشباب مثلك. لا تريدون فقط أن تتعلموا، بل تريدون أن تطبقوا ما تعلمتموه لخدمة أوطانكم”.
أخرج عدة كتب وقال: “هذه ستفتح لك آفاقاً جديدة. لكن تذكر، المعرفة الحقيقية تأتي من التجربة والممارسة”.
المشهد الرابع: على ضفاف النيل
في مساء من مساءات الشتاء، جلس سلطان على كوبري قصر النيل، يراقب المراكب الشراعية وهي تتمايل مع النسيم العليل. بجانبه جلس أحمد، زميله في الكلية وابن الصعيد الذي أصبح أقرب أصدقائه.
“تعرف يا سلطان، أحياناً أشعر أن النيل يحكي لنا حكايات الأجداد”، قال أحمد وهو يلقي حصاة صغيرة في الماء.
“نعم، وأنا أشعر أن هذا النهر يعلمني الصبر. الماء يجري دون توقف، لكنه يروي الأرض في طريقه”، رد سلطان متأملاً.
فجأة، اقترب منهما بائع الفول المدمس وصاح: “فول سخن! فول سخن!”
ضحك الصديقان وطلبا طبقين. كان هذا هو العشاء المفضل لسلطان – بسيط، شعبي، ولكنه مشبع بطعم الحياة الحقيقية.
المشهد الخامس: في بيت عائلة مصرية
دعت نادية، زميلته في الكلية، سلطان لتناول الغداء في بيت عائلتها في حي الزيتون. استقبلته الحاجة فاطمة، والدة نادية، بحفاوة لا توصف.
“أهلاً وسهلاً بابن الخليج! بيتنا بيتك”، قالت وهي تقوده إلى غرفة الجلوس المتواضعة لكن الدافئة.
جلس سلطان مع العائلة حول سفرة مليئة بالملوخية والفراخ والأرز الأبيض. شعر وكأنه في منزل عائلته في الشارقة.
“حبيبي، إنت هنا زي ولادي تماماً. واحنا كلنا عرب، والعربي أخو العربي”، قالت الحاجة فاطمة وهي تملأ طبقه مرة أخرى.
أبو نادية، الذي يعمل موظفاً في الحكومة، سأله: “إيه رأيك في مصر يا سلطان؟”
“مصر ليست مجرد بلد، بل مدرسة للحياة. هنا تعلمت أن الإنسان أهم من كل شيء آخر”، أجاب سلطان بصدق.
المشهد السادس: في المعمل التجريبي
في معمل الكلية، انكب سلطان على مشروع تخرجه حول تطوير أصناف جديدة من النباتات تتحمل الملوحة والجفاف. عيناه تتفحصان النباتات الصغيرة التي نمت في التربة المالحة.
دخل عليه الدكتور عبد الرحمن السيد، المشرف على رسالته: “كيف الحال مع المشروع؟”
“ممتاز يا دكتور! النتائج تبشر بالخير. أعتقد أننا نستطيع تطوير أصناف تناسب البيئات الصحراوية”، أجاب سلطان بحماس.
ابتسم الدكتور: “هذا ما كنت أتوقعه منك. أنت لا تتعلم للحصول على شهادة فقط، بل لتخدم وطنك وأمتك”.
المشهد السابع: ليلة التخرج
في قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، وقف سلطان القاسمي على المنصة ليتسلم شهادة البكالوريوس في الهندسة الزراعية. في القاعة، جلس أصدقاؤه المصريون يصفقون بحرارة.
عندما نادى مدير الجامعة اسمه، شعر سلطان بدموع الفرح تملأ عينيه. لم تكن مجرد شهادة، بل ثمرة ست سنوات من العلم والصداقة والحب.
“سلطان بن محمد القاسمي، بكالوريوس الهندسة الزراعية بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف”
صفق الجميع، وهتف أحمد من مكانه: “مبروك يا أخويا!”
المشهد الثامن: الوداع
في محطة مصر، نفس المكان الذي وصل إليه قبل ست سنوات، وقف سلطان محاطاً بأصدقائه المصريين. كانت حقيبته أثقل هذه المرة – ليس بالكتب فقط، بل بالذكريات والخبرات والصداقات.
عانقه أحمد بقوة وقال: “لا تنسانا يا سلطان. ومصر هتفضل بيتك الثاني دايماً”.
“كيف أنسى مصر؟ مصر التي علمتني معنى الإنسانية والعطاء”، رد سلطان بصوت متأثر.
نادية أهدته مسبحة صغيرة: “دي من ضريح السيدة زينب، تذكرك بينا وبمصر دايماً”.
ركب القطار وهو يلوح لأصدقائه من النافذة. كان يعلم أن جزءاً من قلبه سيبقى للأبد في شوارع القاهرة وأزقتها وذكرياتها الجميلة.
المشهد التاسع: العودة للوطن
في مطار الشارقة، استقبل والده الشيخ محمد القاسمي ابنه بفخر واعتزاز. كان سلطان قد عاد ليس فقط بشهادة جامعية، بل بحلم كبير لتطوير وطنه.
“كيف كانت مصر يا بني؟” سأل الوالد.
“مصر يا والدي مدرسة الحياة. تعلمت فيها العلم، ولكن الأهم أنني تعلمت كيف أحب وطني أكثر”، أجاب سلطان.
نظر إلى الأراضي الصحراوية المحيطة بالشارقة وقال: “سأجعل هذه الأرض تزهر يا والدي، سأطبق كل ما تعلمته في مصر هنا في وطني”.
المشهد العاشر: تحقيق الحلم
بعد سنوات، وقف سلطان القاسمي، الذي أصبح حاكماً للشارقة، في مزرعة خضراء واسعة حيث كانت فيما مضى أرض صحراوية قاحلة. حوله، امتدت الحقول الخضراء والبساتين المثمرة.
بجانبه وقف أحمد، صديقه المصري الذي جاء لزيارته بعد عقود من التخرج. كانا الآن في الستينيات من عمرهما، ولكن الصداقة ما زالت كما هي.
“مش معقول! دي نفس الأرض الصحراوية اللي شوفتها في الصور القديمة؟” سأل أحمد بدهشة.
ابتسم سلطان: “نعم يا صديقي. هذا ما تعلمته في مصر – أن المستحيل مجرد كلمة. العلم والإرادة والعمل الجاد يمكنها أن تحول الصحراء إلى جنة”.
نظر إلى النخيل الباسق وقال: “كل شجرة هنا تحمل ذكرى من ذكرياتي في القاهرة. مصر علمتني أن أحلم، والإمارات أعطتني الفرصة لأحقق الحلم”.
وهكذا، بقيت أيام سلطان القاسمي في القاهرة محفورة في قلبه وذاكرته، ليس فقط كفترة دراسة، بل كمحطة تحول غيرت نظرته للحياة وأعطته الأدوات لبناء مستقبل أفضل لوطنه وشعبه. ومازالت تلك الذكريات المصرية تشع دفئاً في قلبه كلما تذكر أصدقاءه وأساتذته وتلك الأيام الجميلة على ضفاف النيل الخالد.
المرجع
مجلة مرامي – العدد 161 يناير – فبراير – مارس 2025