كتبت : ليلى شتا
أرسل الله تعالى النبى محمدًا – صل الله عليه وسلم – لينشر ثقافة الرحمة في العالم كله، ومن أجل أن يضع أُسُسًا للتعامُلِ، تكون فيها الرحمة غالبةً للخصومة، ويكون فيها العدل مضبوطًا بالرحمة، بل تكون فيها الحرب غير خالية من الرحمة.
والإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، دعا إلى التراحم، وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان، فالمسلم يَلقى الناس وفي قلبه عطفٌ مدخور، وبرٌّ مكنون، يوسِّع لهم، ويُخفف عنهم، ويواسيهم، فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي أنه قال: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا))، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: ((إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة))؛ رواه الطبراني ورجاله ثِقات.
إن رحمة النبي – صل الله عليه وسلم – تُعد من أهمِّ الملامح الأساسية في شخصيته وفي دعوته، ومن صميم شخصيته رسولاً ونبيًّا ومُبَلِّغًا عن ربه، وهاديًا للناس، وحينما نقرأ قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾، وعندما نقف أمام هذه الآية، لا يَسَعُنا إلا نُدرك سَعَة رحمة هذا النبي الكريم، وكيف كان – صل الله عليه وسلم – يَفِيض رحمةً في خُلُقِه وسلوكه، وأدبه وشمائله، ونُدرك أيضًا التناسبَ والتآلفَ في أرقى مستوياته بين الرِسالة والرسول في هذه الرحمة، حتى إننا لا نتصور أن يحمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلا رسولٌ رحيمٌ ذو رحمةٍ عامة، شاملة فيَّاضة، طُبِع عليها ذوقُه ووِجدانه، وصِيغ بها قلبه وفِطرته؛ يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾، فهو مثلٌ أعلى للرحمة الإلهية؛ لذلك وصفه الله تعالى بأنه رؤوفٌ رحيم، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾،
ولقد تعددت أقوال المفسرين في تفسير المراد من هذه الآية، ويبدو لى – والله أعلم – أن معنى الآية أبعد مما ذُكِر وأشملُ، فإن النبى – صل الله عليه وسلم – بُعِث في زمن كان العالم كله يعاني فيه من أزمة ظاهرة في القِيَم، وأبرزها قيمة الرحمة، فإن هذا الخُلُق كاد يكون معدومًا في العالم آنذاك، ومظاهر هذا كثيرة، فعند العرب كان وأْد البنات، والقتل لأسباب تافهة، وربما قتَل أحدهم الآخرَ دونما سببٍ،
وفي المحيط الخارجي كانت ثقافة الرومان التي تقوم على القوة والبطش، ولم يكن للرحمة فيها مكان، وكانت بلاد الفرس تَرزح تحت وطأة الطبقية المَقيتة التي حطَّمت الضعفاء والفقراء، وفي الهند كانت المرأة تُحرَق حيَّة مع زوجها بعد وفاته، وكانت الحروب بين الشعوب مُدمِّرة طاحنة تستمر عدة سنوات لا يرقب فيها فريق رَحِمًا ولا خُلقًا.
جمع الله – سبحانه وتعالى – فى نبيِّه محمد – صلى الله عليه وسلم – صفات الجمال والكمال البشري، وتألَّقت رُوحه الطاهرة بعظيم الشمائل والخِصال، وكريم الصفات والأفعال، حتى أبهرت سيرته القريب والبعيد، وتملَّكت هيبتُه العدوَّ والصديق، وقد صوَّر لنا هذه المشاعر الصحابي الجليل حسان بن ثابت – رضي الله عنه – أبلغ تصوير حينما قال:
وأجملُ منك لم ترَ قطُّ عيني
وأكملُ منك لم تلد النساءُ
خُلقتَ مبرَّأً من كل عيبٍ
كأنك قد خُلِقت كما تشاءُ
فمن سمات الكمال التي تحلَّى بها – صلى الله عليه وسلم – خُلُقُ الرحمة والرأفة بالغير، كيف لا وهو المبعوث رحمةً للعالمين، فقد وهَبه الله قلبًا رحيمًا، يرقُّ للضعيف، ويحنُّ على المسكين، ويعطف على الخلق أجمعين، حتى صارت الرحمة له سجيَّة، فشمِلت الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر، فنال بذلك رحمة الله تعالى، فالراحمون يرحمهم الرحمن.
قال الشاعر:
وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ
هذان في الدنيا هما الرُّحماءُ
يا أيُّها الأمى حسبُك رُتبةً
في العلم أنْ دانت بك العلماءُ
ورحمته – صل الله عليه وسلم – للناس جميعًا، فعن جرير بن عبدالله – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صل الله عليه وسلم -: ((مَن لا يَرحَمِ الناس، لا يَرحَمُه الله – عز وجل))؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت أبا القاسم – صل الله عليه وسلم – يقول: ((لا تُنزعُ الرحمة إلاّ من شقِي))؛ رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني.
إن تبلُّد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحطَّ، الإنسانُ بغير قلب رحيم أشبه بالآلة الصماء، وهو بغير روح ودود أشبه بالحجر الصُّلب.
الرحمة صورة من كمال الفطرة وجمال الخلُق، تحمل صاحبها على البر، وتهبُّ عليه في الأزمات نسيمًا عليلاً، تترطَّب معه الحياة، وتأنَس له الأفئدة.
أيها المسلمون:
وإذا كان الأمر كذلك، فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة وأَمنِّهم بها، وأَولاهم بها – الوالدين، فببرِّهما تُستجلب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة، ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]. صدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم فيما بلغ عن ربه فاليعلم العالم أجمع من هو رسولنا الكريم محمد صل الله عليه وسلم