كتب : رؤف جنيدى
في الحقيقة لا أدرى ما هذا الذى أصابنا وأين ذهبت المروءة والشهامة . وما هذا الكم الهائل من القسوة والغِلظة التي باتت تحكم علاقاتنا . صرنا آلات بشرية وماكينات طحن آدمية . صارت أفواهنا كفتحات الملء . مدخلاتها الطعام ومخرجاتها الفضلات . نأكل فقط لنبني أجساماً فارعة القوام ولكنها للأسف فارغة الروح والإحساس . نأكل لنتحرك ونتحرك لنأكل . لم تعد تحمل قلوبُنا إلا الدم . ولم يعد يجرى في عروقنا إلا ماءٌ بارد . قد تُعجِبنا أجسامنا ولكننا في الحقيقة خُشبٌ مسندة . بل أعجاز نخلٍ خاوية . خلت من الروح ومن المشاعر ومن الإحاسيس ومن الرفق والتراحم . صار البعض ينتقم من البعض بسيف الحكومة . صرنا نشمت في بعضنا بغلو الأسعار . ونتشفى في مصائبنا اليومية وكأنها تصفية حسابات . نسينا أن يربت كل منا على كتف أخيه المقهور . نسينا أن يواسي كل منا أخيه الموجوع . نسينا أن يهدهد كل منا أخيه المكلوم . نسينا وتناسينا أحب الأعمال إلي الله تعالى وهي إدخال السرور على قلب مسلم حتى ولو بالقول . نسينا الفريضة الغائبة . نسينا ( جبر الخاطر ) …
فمرة يطالعنا المتحدث بإسم وزارة التموين فى مداخلة تليفونية مع أحد البرامج مدافعاً عن تخفيض وزن رغيف العيش . وهو فرحٌ فخور بما أقدمت عليه وزارته . حتى أنه قال أن المواطنين سعداء بخفض وزن الرغيف . ما كل هذا الجفاء واللامبالاة ؟! …
ومن قبلها يسخر الوزير نفسه من مواطنين طالبوا بتبديل زيت التموين بنوع آخر أكثر نقاءً وصفاءً فقال ساخراً منهم ( بتاخد دعم وبتتأنعر ) !!! . ما كل هذا التعالي وكسر النفوس الفقيرة ؟! .
ومرة يخرج علينا مسؤول في وزارة الكهرباء أو وزارة البترول ليعلن عن زيادة جديدة فى أسعار الكهرباء أو المحروقات .. وهو في غاية الزهو والفخر بما أنجز .. ياسيدى : أظهر قدراً من مؤازرة الناس وتقدير ظروفهم ولو بمقدمة رقيقة حانية .
تطارد إدارات المرور أصحاب السيارات لتركيب الملصق الأليكترونى في مهلة زمنية قصيرة وسريعة ومتسرعة وكأننا مقبلين على نهاية العالم . فإما التركيب خلال المدة المحددة وإما الغرامة ..
تلاحق شركات الخدمات عملاءها بقطع الخدمة فور حلول موعد دفع اشتراكها الشهرى أو التأخير في سداد الإستهلاك .في تحدٍ ومهانة ودون أى اعتبار لآدمية المشترك .. فإما الدفع وإما رفع الخدمة ..
حتي حملات إزالة المباني المخالفة ( وأقصد هنا البسطاء وليس لأصحاب الأبراج من الحيتان ) . تتقدم قوة الحملة إلي هدفها وكلهم صلفٌ وغرور وشعور بالعظمة والفخر . وهم في حالة من الشماتة والتشفي في صاحب العقار . وكأنهم سيعيدون نصر اكتوبر العظيم . فلماذا كل هذه الغِلظة ؟! ..
ياسادة : سيمتثل المواطن كما امتثل من قبل . وسيتحمل كما تحمل من قبل . ولن يقف أحد ضد الصالح العام . ولن يناطح أحدٌ هيبةَ الدولة . ولابد من أن يسود القانون على الجميع .. ولكن رفقاً بالمواطن فلا تضاعف معاناته مرتين . مرة بشظف العَيش . ومرة بسوء التعامل والبطش والتشفي ..
ياسادة : مَثَلُكم كَمَثل من يرفعون ثقلاً ليضعوه على رأس حمَّال . حتي اذا وضعوه فوق رأسه . اهتزت أوصال الرجل وتململ وكاد أن يقع . فصفعتموه على وجهه كي يتحمل ويظل واقفاً . ياسيدى : إن لم تُعِنه على حمله . فلا تكن القشة التى قصمت ظهرَه .
ياسيدى إن كنت لابد فاعل . فاقسُ بيدٍ وإرفق بألأخرى . حمِّله بيدٍ وأسند عليه بالأخرى . كن رحيماً وأنت تنفذ . فالقرار القاسي الذى ينفذه مسؤول رحيم . أفضل عند المواطن وأخف وطأة من قرارٍ رحيم ينفذه مسؤول باطش لا يعرف الرحمة ويتلذذ بتعذيب الناس . فلا يكفي أن يكون المسؤول هو الأكفأ علمياً ومهنياً . ولكن يجب أن يكون أيضاً هو الأكفأ إنسانياً .
حتي نحن فيما بيننا . صرنا نتشفي في بعضنا البعض . صرنا نتهم المتألم منا أو الفقير بأنه يقف في وجه القانون . فيا سيدى : إن كنت قادرٌ على أن تتحمل . زادك الله من فضله . ودع الفقير يتجرع الدواء شيئاً فشيئاً دون سخرية أو اتهاماتٍ تؤلمه ….
ياسادة : اجبروا الخواطر الكسيرة .. واحنوا على النفوس التي أرهقتها الحاجة .. وامسحوا على الرؤوس التى أعياها الغلاء .. وطبطبوا على الظهور التى أحنتها المحن … وارفعوا عن الكواهل التي ناءت بأحمالها . واسندوا السيقان التى كادت أن تخر بالأجساد . قولوا لهم كلمة طيبة . أجبروا بخاطرهم . ثم نفذوا القانون .
فوالله العظيم : سيظل هؤلاء هم لَبِنات أى بناءٍ مجتمعي .
سيظل هؤلاء هم من سيُصفقون لأى مسؤولٍ يزورهم في ديارهم .
سيظل هؤلاء هم من سيَصْطفون على جانبي موكبِه مُلوحِين له بعلم مصر .