الهويات المتحوّلة والشرعية المشروطة:
بقلم . ميسرة السيد
باحثة ماجستير علاقات دولية
في النسق الدولي الذي تحكمه المصالح القومية وتوازنات القوى، لم يعد مستبعدًا أن يتحول “الإرهابي” في قاموس الأمس إلى “رئيس شرعي” في منطق اليوم. وقد جسّد أحمد الشرع، المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني، هذه المفارقة بوضوح، حين انتقل من قيادة تنظيم جهادي مصنف إرهابيًا إلى رئاسة المرحلة الانتقالية في سوريا، ففي مايو 2017، كانت الولايات المتحدة قد خصصت، عبر برنامج “مكافآت من أجل العدالة”، مبلغ 10 ملايين دولار لقاء القبض عليه، بينما وصفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قمة الرياض (مايو 2025) بأنه “شاب وسيم، قوي، وله ماضٍ قتالي”، قبل أن يعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في يونيو 2025 إزالة اسم “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب.
لفهم هذا التحول الجذري، يمكن العودة إلى المنظور الواقعي الكلاسيكي في العلاقات الدولية، وتحديدًا إلى تصور “هانز مورغنثاو” في كتابه (السياسة بين الأمم1948)، الذي يعرّف الدولة عبر أربعة عناصر: الشعب، الإقليم، السيادة، والاعتراف، غير أن الكاتبة تقترح تعديل العنصر الأخير ليصبح “الاعتراف الأمريكي”؛ ففي ظل النسق الدولي أحادي القطبية، باتت الولايات المتحدة تمثل المركز المهيمن في صناعة القرار العالمي وإضفاء الشرعية على الأنظمة السياسية الجديدة، كما أصبح غياب الدعم الأمريكي عاملًا كافيًا لعزل أي نظام وإسقاطه بالقوة.
إن حالة “أحمد الشرع” تبرز كدراسة حالة فريدة في هذا الإطار، إذ انتقل من موقع “العدو” إلى “الشريك الإقليمي”، دون أن يُجري مراجعة أيديولوجية مُعلنة، وإنما من خلال تبنّي خطاب براغماتي يعكس إدراكًا دقيقًا لموازين القوى ومصالح الفاعلين الدوليين، وقد كشف السفير الأمريكي السابق لدى سوريا “روبرت فورد” في مايو 2025، أن هذا التحول لم يكن تلقائيًا، بل نتيجة مسار لإعادة التأهيل السياسي قامت به منظمة بريطانية غير حكومية، مشيرًا إلى أنه التقى بالشرع ثلاث مرات منذ عام 2023، أولها في إدلب، حيث فوجئ بانفتاحه السياسي واستعداده لمناقشة مستقبل سوريا بأسلوب مختلف عن خطابه الجهادي السابق.
ورغم أن الشرع لم يقدّم اعتذارًا صريحًا عن ماضيه، سواء في العراق أو سوريا، إلا أنه عبّر عن وعي بضرورة تغيير الأساليب، مظهرًا نزعة براغماتية تستند إلى منطق السلطة، لا إلى تحوّل فكري حقيقي، وقد أكّد فورد أن التحول في سلوك الشرع لم يكن قائمًا على مراجعة أيديولوجية، بل على اعتبارات واقعية تتعلق بالبقاء في السلطة وكسب الشرعية الدولية.
لفهم جذور هذا التحول، لا بد من العودة إلى السياق التنظيمي، فقد انطلقت جبهة النصرة في عام 2012 كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا، بقيادة الجولاني، بعد تلقيه دعمًا مباشرًا من تنظيم “داعش” في العراق، غير أن خلافًا استراتيجيًا أدى إلى انفصال النصرة عن داعش عام 2013، ثم أعلنت في يوليو 2016 انفصالها عن القاعدة، وتحولت إلى “هيئة تحرير الشام”، في خطوة رُوّج لها آنذاك كإعادة تموضع سياسي، تزامنت مع الظهور الإعلامي العلني الأول للجولاني.
إلا أن هذا التحول الرمزي لم يُترجم إلى التزام فعلي بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، فقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقريرها الصادر في فبراير 2022، ارتكاب الهيئة انتهاكات جسيمة في المناطق الخاضعة لسيطرتها، شملت القتل والتعذيب والاعتقال التعسفي، حيث بلغ عدد الضحايا المدنيين أكثر من 500 شخص، بالإضافة إلى آلاف المعتقلين بينهم نساء وأطفال، وبعد تولي الشرع رئاسة المرحلة الانتقالية، استمرت الانتهاكات، وتشير تقارير حقوقية إلى مقتل نحو 8,000 من الطائفة العلوية بين ديسمبر 2024 ويونيو 2025.
مع ذلك، كان للشرع رؤية سياسية بديلة عن أسلافه، فالرئيس السابق “بشار الأسد”، الذي حكم سوريا منذ عام 2000 حتى الإطاحة به في ديسمبر 2024، لم يلتقِ رسميًا بأي رئيس أمريكي، وظلت علاقاته الخارجية محصورة في محاور تقليدية، خصوصًا روسيا وإيران، أما الشرع، فقد سارع إلى لقاء ترامب في الرياض في مايو 2025، وصرّح علنًا بأن “روسيا دولة كبرى لكن لا يُسمح لها أو لغيرها بإدارة سوريا”، وذهب أبعد من ذلك حين حمّل إيران وميليشياتها مسؤولية توسع إسرائيل في المنطقة، مؤكدًا خروجها الكامل من دمشق.
هذا الخطاب البراغماتي أدى إلى تحوّل جذري في مواقف الدول الغربية والعربية، فقد أعلنت الولايات المتحدة رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وتم تنظيم مؤتمر الاستثمار السوري-السعودي (23–24 يوليو 2025)، بحضور وزاري رفيع المستوى، ونتج عنه اتفاقيات بلغت قيمتها 6.4 مليار دولار، كما وُقّعت اتفاقات أخرى مع الإمارات (800 مليون دولار لتطوير ميناء طرطوس)، ومع قطر (7 مليارات دولار لمشاريع طاقة)، وتعهدت الأمم المتحدة بتقديم 1.3 مليار دولار، فيما بلغ مجموع تعهدات المانحين الدوليين نحو 6.5 مليار دولار لدعم الانتقال السياسي.
رغم هذا الانفتاح، ما تزال بعض الملفات تشكل تحديًا، أبرزها ملف العلاقات السورية–الإسرائيلية، فقد أفادت تقارير إعلامية بأن الشرع التقى بمسؤولين إسرائيليين في دولة الإمارات في إطار تحركات أولية لضمّ سوريا إلى اتفاقيات “إبراهام” (2020)، لكن هذا المسار واجه عقبة كبرى بعد قصف إسرائيل لمقر وزارة الدفاع بدمشق في يوليو 2025، مبررة الهجوم بحماية الطائفة الدرزية، وجاء رد الشرع رمزيًا من خلال خطاب مُتلفز خالٍ من التصعيد العسكري، في محاولة منه للحفاظ على توازن المصالح.
تستمد سوريا أهميتها من موقعها الجيوسياسي، كونها نقطة تقاطع بين ثلاث قارات وخمس دول حدودية، وإشرافها على المتوسط، ما يجعلها ساحة للصراع بين مشاريع إقليمية ودولية متنافسة، فبينما تسعى الولايات المتحدة إلى تحجيم النفوذ الإيراني والروسي من خلالها، تعتبرها إيران جزءًا من “الهلال الشيعي”، وتسعى تركيا لضمان أمنها القومي من خلال تحجيم التطلعات الكردية، بينما تنظر الصين إليها كبوابة إلى المتوسط ضمن مشروع “الحزام والطريق”، وتحاول الدول العربية استعادتها إلى النسق العربي لموازنة النفوذ غير العربي في المشرق.
إن دعم الجماعة الدولية للنظام السوري الجديد لا يستند بالضرورة إلى مؤشرات ديمقراطية كالنمو الاقتصادي أو الانتخابات النزيهة أو الانتقال السلمي للسلطة، بل إلى مدى التزام القيادة الجديدة بتنفيذ السياسات التي تخدم مصالح القوى الدولية والإقليمية الداعمة، فبقاء “الشرع” في موقعه مرهون بقدرته على الاستجابة للمطالب الغربية، وأي انحراف عن هذا المسار قد يؤدي إلى فقدانه للشرعية السياسية.