إن الله عز وجل عندما خلق آدم عليه السلام أبو البشرية ، خلقهُ من تراب وقد قيض الله قبضة من جميع أرجاء الأرض وقال رسول الله صل الله عليه وسلم في ذلك : ( إن الله خلقَ آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فجاء منهم الأبيض والأسود والأحمر وبين ذلك ، والسَّهلُ والحزنُ والخبيث والطيب وبين ذلك ) وهكذا توزع البشر في ارجاء الأرض من مختلف ألوانها وطيبها وخبيثها ، والله عز وجل عندما خلق آدم خلقه من طينٍ لازب وحمأٍ مسنون وكما ذكرت فإن الله أخذ من تربة الأرض ، تُربةً حمراء وبيضاء وسوداء وصفراء وذلك هو سبب اختلاف ألوان البشر ومزجها بالماء فأصبحت صلصالاً من حمأٍ مسنون ، فالله تعالى خلقهُ بيديه ونفخ فيه من روحه فدبت الحياة ، وبعدها خلق منه أُمنا حواء كما قال تعالى : فيه( يا أيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة ، وخلق منها زوجها ) وعاشا بعد ذلك في الجنة في نعيم ورغدٍ وسعادة إلى أن اغواهما الشيطان ،فأُخرِجا من الجنة إلى الأرض ليعمروها واستخلفهم الله فيها إذ قال تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة ) وقالى تعالى أيضا في ذلك ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) وبنزولهم على الأرض ، بدأ سيدنا آدم عليه السلام هو وأبناؤه بإعمار الأرض وكانوا أول أُمة على وجه الأرض ، فكانت بداية التشبث بالأرض والتعلق بها والإنتماء إليها كمكونٌ إسمه الوطن ، فما هو الوطن؟
فالوطن وحب الوطن هو ذلك الإحساس الخفي الذي يحركنا للتعلق به، والإحساس بالإنتماء إليه مهما بعُدت بيننا المسافات وهو شعور فطري ينمو ويكبر مع تقدمنا بالعمر وإحساسنا بأنّ لا شيء يضاهي دفئ الأرض التي خُلقنا من ترابها، وترعرعنا في روابيها مهما رأينا وأحببنا من بلاد، إنّه حب توارثناه من الأجداد إلى الآباء إلى الأحفاد فاستقرّ في قلوبنا ولا زال يكبُر. إنّ حب هذه الأرض لم يأتِ من العدم، فلولا الوطن لما شعرنا يومًا بمعنى الإستقرار والأمان، فهو الملجأ من كلّ ما يضرّنا، وهو المكان الذي لو عملنا ليلاً نهاراً من أجله لما استطعنا إيفاءه حقه، فهو الكيان الذي يستحق منّا العمل لا القول فقط، فالفرد الصالح هو من يعبّر عن حبّه لوطنه بالدفاع عنه في كل حين، وفي الحفاظ على ممتلكاته العامة ومرافقه ونظافتها، وهو الفرد ذاته الذي يسعى للتعلّم ونيل الدرجات لتسخيرها مستقبلاً في إفادة وطنه، ولا ننسى أنّه الفرد الذي يبتعد عن الأقاويل التي تمس هذا الوطن وتسيء إليه، كيف لا وهو يراه الأم والأب والمأوى؟! فعلاقة الإنسان بوطنه كعلاقته بوالديه والإنسان لا يختار وطنه عند ولادته ولذلك يُقال عن الوطن الأصلي إنه الوطن الأم للإنسان ، والعلاقة بين الأم وولدها هي أقوى العلاقات الإنسانية وأعمقها تأثيراً بين الطرفين
إن مكونات الوطن هي الأرض التي وُلِد فيها وجُبِلت دماؤه من تُرابها بكامل مكوناتها من جبالٍ وسهولٍ والمكون الثاني هو الإنسان نفسه بدينه ومعتقداته وعاداته وتقاليده ، التي هي صفات المجتمع وتراثه ، فالوطن مهما كانت صفته أو حجمه وطبيعته يبقى متجذراً في الإنسان الذي خُلق في أرض الوطن ، فقد ترى إبن الصحراء ، أو إبن الغابات يعشقون أوطانهم رُغم صعوبة الحياة وشظف العيش وقسوة الطبيعة فإنهم لا يستبدلون أوطانهم ولو بكنوز الدنيا فمهما بعدوا عنه سيبقى الوطن متعلقاً بأرواحهم وجذورهم ، وذلك لأن حُب الأوطان حاسة فطرية في الإنسان لا يمكن أن يتخلى عنها لأنها متأصلةٍ فيه وفي طباعه ومكوناته وحب الأوطان ينتقل بالوراثة عبر الأجيال وهدف ذلك الحفاظ على الأرض التي ولدوا فيها وسكنوها فالكثير من الشعوب ناضلت وقدمت الكثير من أبنائها تضحيةً في سبيل أمن الوطن ، فالوطن هو جوهرة ثمينة تتعلق بها روح المرء وقد قدم رسولنا الكريم درساً عظيماً في حُب الأوطان عندما خرج من مكة إلى المدينة ،فبكاها مودعاً ونظر إليها نظرةً حزينة وقال : ( والله إنك لخير أرض الله وأحبُّ أرض إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك ) وإن بعض الصحابة ممن خرجوا مع الرسول أصابتهم من شدة الحُزن الحُمّى حتى وصلت ببعضهم إلى الهذيان من شدتها وقد قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( اللهم حَبِّب إلينا المدينة كحُبنا مكة أو أشد وصححًها وبارك لنا في صاعِها ومدِها وانقُل حُمَّاها فاجعلها بالجحفة ) وقد راعى الإسلام في ذلك حُب الإنسان الفطري لوطنه ومحل نشأته وتعلقه به وقد ورد ذلك في الكثير من الآيات ومنها قول الله تعالى : ( الذين أُخِرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا ربنا الله ) فكلمة الديار هنا هي الأوطان وقد نسبها للمؤمنين الذين أُخرِجوا من وطنهم لشدة ارتباطهم وتعلقهم به إحساساً ومعنىً ، كما قال تعالى : ( قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أُخِرجنا من ديارنا ) حيثُ جُعِلت أحد دوافع الجهاد في سبيل الله الإخراج من الأوطان
إن محبة الوطن والإنتماء إليه تبدأ منذ ولادة الإنسان ونشأته ، فتبدأ من البيت وهو الوطن الأصغر ويبدأ بالإتساع ليمتد إلى الحي فالمدينه فالإقليم أو القُطر فالوطن الأكبر الأشمل والأعم
ولكن كيف لنا أن ننمي حُب الوطن في ابنائنا ونشدهم إليه لكي يتفانوا بخدمته ؟ ويكون ذلك بالأمور التاليه :
1 – تربية الإنسان على إستشعار فضل الوطن ومجازاة الوطن بالإحسان فمهما عانى الوطن من آلام وظروف قاسية فلا يجب علينا أن نتخلى عنه ، ويتبين في ذلك معنى الإنتماء والوطنية الحقة
2 – مد جسور المحبة والمودة بين ابناء الوطن والحرص على إيجاد جو من الألفة والأخوة بين أبناء الوطن
3 – غرس قيم الإنتماء الإيجابي للوطن ومعاني الإنتماء له والتمسك به
4 – السعي نحو العيش الكريم على تراب الوطن من خلال أداء كل مواطن لواجباته نحو وطنه
5 – تربية الأبناء على حماية ممتلكات الوطن والحفاظ على مرافقه وأمنه كما يحافظ على ممتلكات بيته لأن الوطن هو بيته الكبير
6 – الدفاع عن الوطن بمختلف السُبُل قولاً وفعلاً والمساهمة في خدمته بالقول والعمل والفكر والوقوف في وجه اي شئ يخلُّ بأمن وأمان الوطن
7- التأكيد على هويته وركائزه الأساسية وهي اللغة والدين والعادات والتقاليد وترسيخها بين أفراد عامة الشعب
وكما هو علينا كأفراد واجبات نؤديها من أجل الوطن والحفاظ عليه ، كذلك على الوطن واجبات متمثلاً بالدولة التي تقوم على حمايته والنهوض به فالوطن بترابه وأرضه والدولة بقيادتها وأمنها وأنظمتها أولاً وقبل كُل شئ فلا أمن ولا إستقرار ولا رغد عيش إلا بوطن تحكمهُ دولة قوية توفر الأمن والأمان لمواطنيها ، فعلى الدولة تأمين الحياة الكريمة لأبناء الوطن في كل مناحي الحياة من سياسية ودينية وإجتماعية وإقتصادية والتوزيع العادل لكل متطلبات الشعب لما يحتاجه من حاجيات ضرورية في حياته ، ولكي يبقى الوطن واحة أمنٍ وأمان والدعاء له بزيادة الرزق إقتداءاً بأبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام حيثُ قال الله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهلهُ من الثمرات ، من آمن بالله واليوم الآخر ، قال ومن كفر فأُمتِعهُ قليلاً ثُمَّ أضطرهُ إلى عذاب النارِ وبئس المصير )
في النهاية يجب أن نعي قاعدة مهمة جداً وهي ان حُب الأوطان يكبُر في قلوب الصغار كُلما كبُرت أعمارهم وأن الوطن لا يُعوض ، وأن من يخسر وطنه يفقد الأمن والأمان والسعادة والراحة وهذا دور الأسرة والمدرسة ومؤسسات المجتمع والإعلام في تأصيل الهوية والحس الوطني وغرس القيم في نفوس الأطفال وتربية الأبناء على حب الوطن وهي من المعاني المهمة التي يجب أن يسعى لها الآباء لغرسها في أبنائهم ، فالطفل كالأرض البور بحيثُ يجب علينا أن نُحسن الزرع لكي نجني الحصاد والثمار الطيبة فحُب الوطن والإخلاص له ميزة أساسية في أي نفس وبحُب الوطن تختفي معه عُقدة المكان وكل النعرات القبلية والفوارق الإجتماعية بين الناس ، وحب الإنسان لوطنه يكمُن بحرصه عليه والحفاظ على مكتسباته فالوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات وتُسقى بالعرق والدم ، وكما قال أحمد شوقي :
وطني لو شُغٍلتُ بالخُلد عنهُ نازعتني إليه في الخُلدِ نفسي