تمرد فرنسي على أمريكا واتصال صادم بروسيا
بقلم : نبيل أبوالياسين
في قلب تحولات عالمية عاصفة، يبرز صوت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مهاجمًا “الابتزاز” التجاري الأمريكي ومؤكدًا على ضرورة العدالة والحرية في التجارة الدولية، وهذه التصريحات ليست مجرد انتقاد عابر، بل هي تعبير عن موقف أوروبي متزايد الرفض للهيمنة الأمريكية، وتتزامن مع خطوة دبلوماسية مفاجئة وغير مسبوقة: اتصال هاتفي هو الأول منذ ثلاث سنوات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفي هذا المشهد المعقد، تتشابك خيوط الاقتصاد بالسياسة، والعدالة بالصراع، لترسم ملامح نظام عالمي جديد.
ماكرون يهاجم ترامب: “الابتزاز” وليس توازنًا
في مؤتمر تمويل التنمية بإشبيلية، وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انتقادًا لاذعًا للرسوم الجمركية التي تفرضها القوى الكبرى، واصفًا إياها بأنها شكل من أشكال “الابتزاز” وليست أداة لإعادة التوازن التجاري، ورغم عدم ذكره الولايات المتحدة أو ترامب بالاسم، كان قصده واضحًا، وأكد ماكرون أن “استعادة حرب تجارية وفرض رسوم جمركية هو انحراف”، خاصة ضد الدول النامية، كما دعا لتعزيز دور منظمة التجارة العالمية لدعم أهداف مكافحة عدم المساواة وتغير المناخ، مشيرًا إلى عدم منطقية طلب واشنطن من الأوروبيين زيادة إنفاقهم الدفاعي بينما تشن عليهم حربًا تجارية.
الغرب: الابتزاز والعزلة وثمن الصمت
لقد حذرنا دول الغرب مرارًا وتكرارًا، حتى قبل وصول ترامب للسلطة، من عودته المنتقمة وسياسة الشعبوية الترامبية التي ستسود فترة رئاسته، وإن انسياقكم خلفه في دعم الاحتلال لارتكاب إبادة جماعية في غزة ليس صائبًا، بل سيولد عزلة شعبية غير مسبوقة لأوروبا ويفقدها ثقة شعوب العالم، وحديثكم المزعوم عن حقوق الإنسان سيصبح أكذوبة كبرى، ففي الوقت الذي تتحدثون فيه بكثرة عن المنشآت النووية الإيرانية وضرورة امتثال طهران لالتزاماتها، يصمتم صمتًا مدهشًا عن المنشآت النووية الإسرائيلية وسلاحها السري، وكأنها ليست على كوكب الأرض، رغم كل التسريبات التي تؤكد ذلك بلا لبس.
أوروبا تتراجع: حقوق الإنسان على المحك
بينما يهاجم ماكرون “الابتزاز” الاقتصادي الخارجي، يشهد الاتحاد الأوروبي تراجعًا مقلقًا داخليًا، فقد اتفقت الدول الأعضاء، بقيادة فرنسا وألمانيا، على موقف في المجلس الأوروبي يهدد بإفراغ توجيه العناية الواجبة لاستدامة الشركات CSDDD من محتواه، هذا التوجيه، الذي كان يهدف لحماية حقوق الإنسان والبيئة في سلاسل التوريد العالمية ومساءلة الشركات قانونًا، أصبح مهددًا بالتحول إلى “نمر بلا أسنان”، وهيومن رايتس ووتش انتقدت هذا التراجع بشدة، معتبرة إياه خيانة لالتزامات الاتحاد الأوروبي ويجعل ضحايا الانتهاكات عرضة للخطر.
ضغوط الصناعة تقتل العدالة
إن الجهود لتقويض تشريع حماية حقوق الإنسان والبيئة في سلاسل التوريد بدأت في فبراير 2025، عندما قامت مفوضية الاتحاد الأوروبي الجديدة بتغيير مفاجئ للمسار، مقترحة تجريد التوجيه من أهم عناصره، مثل التزام الشركات بالعناية الواجبة عبر سلسلة التوريد وإمكانية مقاضاة الضحايا. يبدو أن جماعات الضغط الصناعية لعبت دورًا رئيسيًا في هذه التغييرات، متذرعةً بـ “القدرة التنافسية” و “التبسيط”، بينما الهدف الحقيقي هو إلغاء الضوابط التنظيمية وتجاهل حماية الضحايا، خبراء وأمم متحدة وجهات حقوقية انتقدت بشدة هذا التراجع.
بوتين وماكرون: خط اتصال بعد 3 سنوات
في خطوة دبلوماسية مفاجئة، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون اتصالًا هاتفيًا هو الأول منذ سبتمبر 2022، ناقش الرئيسان الوضع في أوكرانيا، حيث حمل بوتين الغرب مسؤولية النزاع وتأكيد أهمية تسوية “طويلة الأمد”، بينما حث ماكرون على وقف فوري لإطلاق النار ودعم سيادة أوكرانيا، وتطرقا أيضًا إلى الوضع في الشرق الأوسط، بما في ذلك المواجهة الإيرانية الإسرائيلية والضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية، وشدد بوتين على حق إيران في برنامج نووي “سلمي”، بينما أكد ماكرون على ضرورة امتثال إيران لالتزاماتها الدولية.
تنسيق وتحديات عالمية
الاتصال بين بوتين وماكرون، الذي استمر ساعتين، انتهى بقرار تنسيق الجهود والتحدث قريبًا لمتابعة القضايا المطروحة، وهذه الخطوة تشير إلى رغبة في استئناف حوار رفيع المستوى بين موسكو وباريس، رغم الخلافات العميقة حول أوكرانيا وقضايا أخرى، وتأتي هذه التطورات في سياق عالمي مضطرب، حيث تتشابك الصراعات الاقتصادية والسياسية، وتحديات كبرى تواجه القوى العالمية، من التجارة الحرة والعدالة المناخية إلى حقوق الإنسان في سلاسل التوريد، مما يتطلب تنسيقًا دبلوماسيًا مكثفًا، وربما تغييرًا جذريًا في نهج العلاقات الدولية.
ردود الفعل الدولية على التصعيد الفرنسي
لم تكن ردود الفعل الأمريكية على انتقادات ماكرون مباشرة، لكن مصادر دبلوماسية أشارت إلى استياء واشنطن من “اللغة العدائية”، بينما رحبت موسكو بالخطاب الفرنسي كعلامة على “استقلالية أوروبية محتملة”. هذا التباين يعكس عمق الانقسام في المشهد الجيوسياسي الحالي.وختامًا: عالم في مفترق طرق
وختامًا: عالم في مفترق طرق
إن ما نشهده اليوم من تصريحات ماكرون الجريئة حول “الابتزاز” التجاري، وتراجعه المؤسف في حماية حقوق الإنسان داخل الاتحاد الأوروبي، ثم اتصاله المفاجئ ببوتين، يرسم صورة لعالم في مفترق طرق، هل ستنجح أوروبا في بناء نظام تجاري عادل بعيدًا عن هيمنة القوى الكبرى؟ وهل ستستعيد التزامها بقيم حقوق الإنسان التي يبدو أنها تتراجع عنها؟ إن هذا التحرك الفرنسي، رغم تناقضاته الظاهرة، يعكس محاولة لإعادة تموضع القوى الأوروبية في مواجهة التحديات العالمية، والمستقبل يحمل في طياته الكثير، فإما أن يستمر الصراع والابتزاز، أو أن تتغلب الحكمة والدبلوماسية لتصوغ عالمًا أكثر عدلاً واستقرارًا.