“حين أكلت الآلهة.. القرابين المقدسة عند المصريين القدماء”
بقلم الباحثة
جيهان سيد محمد علي
اعتقد المصريون القدماء بوجود قوى عليا تتحكم في الكون والحياة، فجسدوا هذه القوى في صورة آلهة (معبودات) لكل منها صفاتها ودورها؛ فهناك معبودات للشمس والخصوبة والحب والحرب، وأخرى للعدل والموت والعالم الآخر. كان لكل معبود مركز عبادة خاص به، وتقام له الطقوس اليومية لضمان رضاه وحماية البلاد. ولم يكن المصري القديم يرى أن المعبودات تتناول الطعام كما يفعل البشر، بل كان يقدمه لها كقربان رمزي لتنال منه طاقتها الإلهية، ثم يستفيد الكهنة من الأطعمة المادية بعد ذلك.
كان يعتقد المصري القديم أن تقديم الطعام للآلهة (المعبودات) أو تقدمة القرابين لها طقس مهم من الطقوس العديدة التي يتم إجراؤها كل يوم لترضى الآلهة (المعبودات) وتهدأ، وليضمن أن تبقى مصر في حالة الماعت “السلام والعدالة”.
أشارت اللوحات والنقوش على جدران المقابر والمعابد إلى الأطعمة التي أُعدت للآلهة (المعبودات) في مصر القديمة، فأشارت جدران معابد الكرنك إلى أن آمون رع -عندما ظهر كإله للخصوبة- فضل قرابين الخضار والزهور الطازجة، وظهر الطفل حورس مع الحليب، وأخذت حتحور النبيذ لأنها إلهة الحب والموسيقى والرقص، بالإضافة للجانب العنيف من طبيعتها -سخمت- كما ذُكر في أسطورة هلاك البشرية أن رع، إله الشمس، أعلن غضبه على البشر لاستهزائهم به، فأرسل حتحور في هيئتها المنتقمة وهي سخمت لتنتقم له، فاستمتعت سخمت بهذه المهمة وكادت تقتل جميع البشر بأكملهم، فأراد رع أن يوقفها عن فعلتها فقدم لها الكثير من المغرة الحمراء وخلطها بالنبيذ لتعطيها اللون الأحمر، فأصبحت تشبه دماء البشر، فشربت منها سخمت حتى سكرت وهدأت ونسيت أمر قتل البشر.
كان هناك ما يعرف بقوائم الطعام المقدم للآلهة (المعبودات)، وكانت تشمل أنواعًا كثيرة من الطعام كاللحم البقري والغزال والطيور والخضروات والفاكهة بجميع أنواعها، والخبز والنبيذ والكعك والحليب.
وقد عُثر على قوائم قرابين منقوشة بوضوح في مقبرة الوزير “رخميرع” في طيبة، حيث صُوِّرت موائد مكدسة بالخبز والفاكهة وقطع اللحم الفاخر أمام تماثيل المعبودات، ويقف الكهنة في صفوف منتظمة يقدمون الأطباق. كما وُجدت قوائم مشابهة في معبد الملك رمسيس الثاني بأبو سمبل، منقوشة بخط هيروغليفي دقيق يعدد أنواع القرابين وكمياتها، مما يعكس دقة الطقس وأهميته في الفكر الديني المصري القديم.
الأسماك هي العنصر الوحيد الذي لم يُقدم كطعام للآلهة (المعبودات)، وقد أثار هذا الأمر جدل العلماء، فهناك من يعتقد أنه عندما قُطع أوزوريس إلى أجزاء صغيرة تم إلقاء عضو منه في النيل والتهمته سمكة، وهناك من يقول إن الأسماك مقدسة لدى الآلهة (المعبودات)، فـ(أبتو وأنت) زوجا من الأسماك سبحا على جانبي مركب الإله رع لصد الأرواح الشريرة عندما مرت عبر العالم السفلي، أو ربما أنها ترمز لإله الشر (ست).
يتم الاستعداد لتقدمة القرابين للآلهة (المعبودات)، فكل مجموعة من الطعام تُنقّى بالماء وملح النطرون والبخور، ويتم وضعها على مائدة القرابين أمام مقصورة الإله وتُقدّم لتمثاله. وكان المستفيد من هذه القرابين والأطعمة الطازجة هم الكهنة، حيث يستولون على هذه الأطعمة المقدمة للآلهة (المعبودات)، فكانت غنية بالدسم ومليئة بأنواع اللحوم الفاخرة الطازجة، فتؤكد إحدى الدراسات المُجراة على مومياوات الكهنة أنهم ماتوا في سن مبكرة بسبب تصلب الشرايين والأزمات القلبية جراء تناول الطعام الدسم باستمرار.
ومثلما قدّم الإغريق النبيذ والزيوت لمعبوداتهم، وحرص أهل بلاد الرافدين على تقديم الخبز والبيرة لآلهتهم، كان المصري القديم يرى في قرابينه وسيلة لحفظ رضا المعبودات واستمرار توازن الكون.
هكذا كان طعام المعبودات في مصر القديمة ليس مجرد أكل يوضع على موائد حجرية، بل رسالة ولاء وتقديس، وجزء من طقس مقدس يحفظ للكون توازنه. وربما ذهبت الأطعمة، لكن ظل معنا سرها وقصتها منقوشًا على الجدران، ليحكي لنا كيف رأى المصري القديم في قرابينه طريقًا لرضا الآلهة وخلود اسمه بين الأبدية.