حين يتحوّل العزاء إلى عرض اجتماعي
كتب : عماد نويجى
في زمنٍ فقدَ الكثير من ملامحه،
لم تَسلَم حتى اللحظات التي يُفترض أن تظلّ مصونة، مهيبة، ومُنزهة عن التكلّف والمظهر…
ومن بين هذه اللحظات، مجالس العزاء.
كانت مجالس العزاء يومًا ما ملاذًا للسكينة، والمواساة، والتذكير بالمصير الواحد…
يجلس الناس بقلوب خاشعة، يرددون الفاتحة، ويُسمع صوت القرآن في الخلفية كأن الأرواح تتطهر.
يواسي الجميع أهل الفقيد بصمتٍ رقيق، بكلمات قليلة لكنها صادقة، بعين دامعة ويدٍ حانية.
أما اليوم…
فقد تحول المجلس إلى ما يشبه عرضًا اجتماعيًا باهتًا،
تُدار فيه المجاملات كما تُدار حملات العلاقات العامة،
وتُلقى فيه كلمات الترحيب أعلى من صوت القرآن،
وتُوزع فيه الابتسامات الرسمية كما تُوزع قوائم الحضور،
ومن لم يحضر يُعاتَب… لا لأن قلبه غاب، بل لأن اسمه لم يُسجّل في “سجل العزاء”.
غابت المواساة، وحضرت المجاملة.
غاب الخشوع، وحضر الاستعراض.
غابت الدعوة بالرحمة، وحضرت فلاشات الهواتف.
وغابت القلوب الصادقة… وجاءت “الوجاهة” في أبهى مظاهرها الكاذبة.
بل وصل الأمر إلى أن يُقاس العزاء بعدد الكراسي،
وبجودة “الضيافة”،وبمن حضر من “الوجهاء”،ومن اعتلى المنصة،
ومن صافح “العائلة الكريمة” في الصف الأول.
كأننا ننسى أن كل من في هذا المكان، فقير إلى الله،
وأن الميت، مهما بلغ شأنه في الدنيا،
يرحل كما رحل غيره،
ولا يبقى له إلا دعاء الصادقين… لا تصفيق المنافقين.
كم من جنازة بسيطة كان فيها من الرحمة والسكينة ما يغني عن ألف مجلس مزخرف.
وكم من عزاء فخم، لم يُرفع فيه دعاءٌ واحدٌ من القلب.
لسنا ضد التنظيم، ولا كرامة الحضور،
لكننا ضد تحويل أقدس لحظة إنسانية إلى مسرحية منمقة،
يعلو فيها صوت المجاملة على صوت الحقيقة.
العزاء ليس مناسبة للظهور، بل مناسبة للغياب…
الغياب عن كل ما هو زائف، وكل ما هو متكلف،
والحضور الكامل بالقلب والعقل، للدعاء والتذكير والرحمة.
نحتاج أن نستعيد المعنى.
أن نعود إلى أصل المجالس:
مجالس ذكر، لا مجالس تزييف.
مجالس ود، لا مجالس منافسة.
مجالس رحمة، لا مهرجانات اجتماعية.
فقد كانت العزاءات آخر ما تبقى من معاني العائلة والمجتمع والستر…
فلا تدعوا الجهل، والمنظرة، والمظاهر، تنتزع منا تلك البقية.