خطأ المعلّم… حين يسير الجهل على قدمين
بقلم: محمود سعيد برغش
في مشهدٍ كاريكاتيريّ ساخرٍ وموجع، تتجسّد مأساة التعليم كما لم تفعل آلاف الكلمات. مجموعة من الطلاب على هيئة حمير يسيرون تحت كتابٍ ضخم، بينما يمشي آخرون على هيئة بشر من فوقه، وكأن الفارق بين الفريقين ليس في الأقدام، بل في العقول التي حَمَلَت الكتاب أو دُفنت تحته. وتحت الصورة كُتب مثلٌ إنجليزيّ بليغ: “خطأ الطبيب يُدفن تحت الأرض، وخطأ المهندس يقع على الأرض، أما خطأ المعلم فيسير على الأرض.”
ما أبلغ هذا القول! فالطبيب يخطئ مرة وقد يُدفن المريض، والمهندس يخطئ مرة فينهار البناء، لكن المعلّم إذا أخطأ، خرّب أجيالًا. خطؤه لا يُقاس بزمن، ولا يُدفن، بل يسير بين الناس، ينطق، يؤثّر، يُضلّ، ويعيد إنتاج الجهل بلا انقطاع.
قال تعالى:
{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]
وهو وصف لمن حاز العلم دون فهم أو عمل أو وعي، فكأنما حَمَل كتبًا لا يفقه ما فيها، تمامًا كما تفضح الصورة التعليم الذي لا ينتج فكرًا بل يكدّس معلومات.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا” [رواه البخاري ومسلم]
وهذا تمامًا ما يحدث عندما يُقصى المعلم الحقيقي، أو يُهمَّش، أو يُستبدل بناقل معلومات بلا وعي أو بصيرة.
في بلادنا، حيث يُختزل التعليم في التلقين، والمناهج تُلقى من علٍ بلا روح، لا غرابة أن نرى نتائج هذا “الخطأ المزمن” ماثلة أمامنا: عقلٌ مشلولٌ بالحفظ، ومنهجٌ جامدٌ بلا نقدٍ ولا تساؤل، ونظامٌ يقيس الذكاء بالدرجات لا بالإبداع. هكذا تخرّج المدارس أجيالًا قد تحمل الشهادات، لكنها لا تحمل أدوات التفكير ولا مفاتيح النهضة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
“لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ولا في علم ليس فيه تفهّم.”
والعلم بلا فهم هو نفسه الخطأ الذي يسير على قدمين، يتكاثر ويتناسل في كل مؤسسة وجهة.
العلماء والفقهاء أجمعوا على خطورة مسؤولية التعليم. فقد اعتبره الإمام الغزالي “من فروض الكفاية التي إن تركها الجميع أثموا جميعًا”. وقال الإمام الشافعي: “طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.” لأن العلم هو أساس العمل، والعمل بلا علم ضلال.
المعلم ليس ناقلًا للمعلومة، بل هو مُشعلٌ لنور العقل أو مُطفئ له. هو من يقرر: هل سيصنع إنسانًا حرًا، أم تابعًا يردد بلا وعي؟ ومن هنا، تصبح مسؤوليته أخطر من مسؤولية الطبيب والمهندس. لأنه إن فسد، فسد العقل، وإن غفل، صارت العقول أسيرة، وإن استسلم، تربّى الجهل واستقر.
الصورة لا تسيء إلى الطلاب، بل تفضح منظومة اختزلت التعليم في الحفظ، وضيّعت قيمة المعلم. هي صرخة في وجه من أراد للتعليم أن يكون سلعة، لا رسالة. وفي وجه من استهان بقيمة المعلم، فحرمه من حقوقه، ثم لامه على ضعف المخرجات.
رأي الشرع واضح وصريح: أن المعلم مؤتمن على العقول، وأن التعليم رسالة لا مهنة فقط. وأن الإهمال في هذه الأمانة جريمة في حق الأمة.
فلنُعد الاعتبار للمعلّم، لا بالشعارات، بل بصناعة بيئة تُمكّنه، وتُعيد إليه هيبته، وتمنحه الأدوات ليكون مصدرًا للنور لا ممرًا للظلام.
فإذا كان خطأ الطبيب يُدفن تحت الأرض، فلنحرص ألا نُخرج أجيالًا مدفونة العقول تمشي على الأرض.