“د خالد السلامي” يكتب : هشاشة الضوء
الضوء حين يولد لا يعدنا بالخلود. إنه ومضة، لحظة، شعاع يتسلّل ثم يتلاشى، تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى بسهولة. قد يظن البعض أن الضوء رمز القوة، لكنه في جوهره هشّ، يتكسّر عند أول جدار، ينطفئ مع أول نفخة ريح، ويغيب كل مساء حين تبتلع الشمس الأفق. ومع ذلك، نحن نتعلّق به، نطلبه في ليلنا ونهارنا، نعيد إشعاله كلما خبا، وكأننا ندرك سرّ هشاشته ونصرّ على ملاحقته.
قيمة الضوء في ضعفه
الهشاشة ليست عيبًا في الضوء، بل هي ما يمنحه معناه. لو كان دائمًا، لفقدنا الإحساس بقيمته. إننا نرى جماله في لحظة الشروق، لأننا نعرف أنه سيمضي. نغني له عند المغيب، لأنه يتركنا لظلام لا مفر منه. وفي هذه الثنائية يتجلّى درس وجودي: أن الأشياء الثمينة قصيرة العمر، وأن النور لا يثبت إلا في عيون من يعرف كيف يحفظه.
الحياة نفسها انعكاس لهشاشة الضوء. اللحظات السعيدة لا تدوم، لكنها تكفي لتضيء أعوامًا من العتمة. الحب، الصداقة، الحلم، كلها أنوار تولد بضعف وتكبر بضعف، لكنها قادرة على بعث الدفء في قلوبنا حتى بعد أن تخبو. ولعل أعظم ما في الضوء أن أثره يستمر حتى بعد انطفائه؛ مثل الشفق الذي يظل يلوّن السماء قليلًا بعد غروب الشمس، أو كذكرى دافئة تبقى في القلب بعد أن يغادر أصحابها.
الضوء كرمز داخلي
وليس الضوء في حياتنا مجرد أشعة حسية، بل هو رمز لمعانٍ أعمق: الأمل الذي يشبه شمعة في ليل طويل، الإيمان الذي ينير القلب وسط الفتن، الحكمة التي تلمع وسط جهل صاخب. لكن هذا كله هش، يحتاج إلى حماية. فالشمعة لا تبقى مشتعلة دون من يصونها، والإيمان يحتاج إلى عمل، والحكمة تحتاج إلى تربية وصبر. النور في جوهره مسؤولية، ومن لم يراعِه ضاع.
في القرآن الكريم نجد لمحة عن هذا المعنى في قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (النور: 35)، حيث يُربط الضوء بالوجود نفسه، بالنظام والمعنى والطمأنينة. لكن هذا النور لا يكتمل أثره إلا حين ينغرس في القلوب لتصبح مصدر إشعاع للآخرين.
انعكاسات الطبيعة
في الطبيعة، نجد الدرس نفسه. القمر لا يضيء بذاته، بل يعكس نورًا من بعيد. النجوم البعيدة قد تنطفئ منذ آلاف السنين، لكن ضوءها ما زال يسافر نحونا. وهكذا نحن البشر؛ قد تنطفئ فينا بعض الأحلام، لكن أثرها يظل يسكن أعين من عرفونا. كأن الضوء ليس ملكًا لصاحبه، بل هدية للعالم من خلاله.