صحة المراهق النفسية بين إغراءات التكنولوجيا وعجز الأسرة
بقلم المعالج النفسي
فاطمة الصغير
لم يعد المراهق اليوم يواجه التحديات ذاتها التي عاشها أقرانه قبل عقدين من الزمن؛ فقد أصبحت التكنولوجيا والفضاء الرقمي جزءاً لا يتجزأ من تكوينه النفسي والاجتماعي، حتى صار “الهاتف الذكي” نافذته الأولى إلى العالم. ومع هذا الانفتاح، برزت أزمة جديدة تهدد سلامته النفسية: كيف يتعامل المراهق مع سيل الإغراءات الإلكترونية في ظل عجز الأسرة عن ضبط الإيقاع أو مواكبة التطورات المتسارعة؟
المراهقة مرحلة فاصلة بين الطفولة والنضج، تتسم بالحساسية، والبحث عن الهوية، والانجذاب إلى كل ما يبدو جديداً ومثيراً. هنا تدخل التكنولوجيا لتصبح الساحة الأكثر جذباً؛ ألعاب إلكترونية، منصات تواصل اجتماعي، محتوى بصري لا ينتهي، وشخصيات مؤثرة تقدم قدوة – أو وهم القدوة. وبالرغم من أن هذه الوسائل تحمل فرصاً للتعلم والتواصل، إلا أنها في الوقت نفسه تفتح أبواباً واسعة أمام القلق، والعزلة، والاكتئاب، وحتى السلوكيات الخطرة.
تكمن خطورة الأمر في أن المراهق يكتسب انطباعاته وقيمه من مصادر قد تفتقر إلى المصداقية أو إلى البعد التربوي. فحين يُقارن نفسه بصورة “المثالية” التي يراها عبر الشاشات، يتولد شعور بالنقص وفقدان الثقة بالنفس. وعندما يجد في الألعاب الإلكترونية متنفّساً للهروب من واقع يشعر فيه بعدم التقدير أو التفهم، فإنه ينزلق شيئاً فشيئاً إلى دائرة الإدمان الرقمي، وما يرافقها من اضطرابات في النوم، وانخفاض التحصيل الدراسي، وتدهور العلاقات الأسرية.
هنا يطل وجه آخر للأزمة: عجز الأسرة. فغالبية الآباء والأمهات ينتمون إلى جيل لم يعش هذه الطفرة التكنولوجية، أو ربما يعيشها بسطحية دون وعي بعمق تأثيرها النفسي. فينشغل بعضهم بتوفير الاحتياجات المادية، بينما يتراجع حضورهم النفسي في حياة أبنائهم. وتكون النتيجة أن يصبح المراهق “غريباً” في بيته، يجد نفسه أقرب إلى شاشة هاتفه من حوار مع أسرته.
إن مواجهة هذه التحديات لا تتطلب رفض التكنولوجيا أو مصادرتها، فهذا أمر غير ممكن ولا عملي، بل تكمن الحلول في بناء جسور من الحوار والوعي. على الأسرة أن تدخل عالم المراهق لتفهمه، لا لتحاكمه. فالمتابعة الواعية لا تعني الرقابة الصارمة، بل المشاركة في الاهتمامات، والاستماع من غير تهديد، وتوجيه السلوك من غير تسلط.
كذلك، من المهم أن تُتاح للمراهق بدائل صحية خارج الفضاء الإلكتروني: أنشطة رياضية، مجموعات شبابية، فرص للتطوع والإبداع، ومجالات للتعبير عن الذات. فحين يجد المراهق معنى لحياته الواقعية، تقل حاجته إلى الغرق في العالم الافتراضي.
ويبقى الدور الأكبر للمؤسسات التربوية والإعلامية التي ينبغي أن تتعاون مع الأسرة في نشر الوعي، وتقديم محتوى بديل يجمع بين الجاذبية والفائدة. فالمراهق يحتاج إلى نماذج إيجابية تشبهه وتلهمه، لا إلى أوهام براقة تقوده نحو الضياع.
إن حماية الصحة النفسية للمراهق في عصر التكنولوجيا ليست مهمة فردية، بل هي مسؤولية جماعية تتقاسمها الأسرة والمدرسة والمجتمع. والمفتاح الحقيقي هو أن نمنحه الحب والفهم والاحتواء، قبل أن تمنحه الشاشة أوهامها. فالتكنولوجيا باقية، لكن الأمان النفسي يظل مسؤوليتنا جميعاً.
دومتم بصحة نفسية جيدة