صرخة ميت
بقلم : رؤف جندى
صرخة ميت ….
عبر طيات ليلٍ موحش . ومع حفيف رياحِه الباردة برودة أجساد الموتى . ومن قلب وحشةِ القبور المتاخمة لبلدة أهليهم . أتاهم صوتٌ من بعيد . قادمٌ من وراء الأفق . من وراء الوعى والإدراك . صوتٌ قادمٌ من أعماق البرزخ .. قادمٌ من على مشارفِ يوم الحساب .
يصرخ فى أهل البلدة . صرخة ميتٍ فى أحياءٍ مازالوا يدبون فوق الأرض دبيباً مختالاً فخوراً . فبعد أن أخذت الأرض زخرفها وازينت لهم . ظنوا أنهم قادرون عليها . غير مدركين أن أمر الله آتيهم لا محالة . ليلاً أو نهاراً . ليجعل الأرض من تحت أقدامهم حصيداً كأن لم تغن بالأمس . صرخة ميتٍ فى أحياءٍ ما زالوا يُصَعِّرون خدهم للناس . مازالوا يمشون فى الأرض مرحاً . ظانين أنهم قد يخرقوا الأرض . أو يبلغوا الجبال طولا ….
هبَّ الميت من رقدته يصرخ فيهم صرخةً مدوية ويقول :
نعم : رأيت أن الجنة حق وأن النار حق .. رأيت الذين اتقوا ربهم يساقون الى الجنة زمراً .. ورأيت الذين كفروا يساقون إلى جهنم زمرا .. سمعت أصحاب الجنة ينادون أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً . فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا : نعم .
سُئِل أهل النار : ما سلككم فى سقر قالوا : لم نك من المصلين . ولم نك نطعم المسكين . وكنا نخوض مع الخائضين . وكنا نكذب بيوم الدين .
نعم : أوتى كل منا كتابه وهو بالفعل لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها . وجدنا كل ما عملناه حاضراً .. تأكدت أننا ماكنا نلفظ فى دنيانا من قولٍ إلا ولدينا رقيب عتيد . حتى جاءتنا سكرة الموت بالحق وهو ما كنا منه نحيد .. واليوم قد نُفخ فى الصور وجاءت كل نفسٍ معها سائقٌ وشهيد .. نعم : لقد كنا فى غفلةٍ من هذا فكشف الله عنا غطاءنا فبصرنا اليوم حديد
أيها الأحياء :
_ أتذكرون قول الله فينا ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم اول مرة ) ؟! وها نحن بالفعل قد جئناه فرادىً فرادى .
_ أتذكرون قول الله فينا ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ) ؟! . وها نحن اليوم قد رجعنا إليه صاغرين .
_ أتذكرون كم تقاتلنا على مواريثنا وسادت فينا القطيعة والبغضاءُ بسببها ؟! . فها هو رب العزة يرث اليوم الأرض ومن عليها .
_ أتذكرون كم تباهينا بأملاكِنا فى الدنيا ؟! . واليوم يسأل رب العزة خلائقه : لمن الملك اليوم ؟ . فلم يرد أحد . ورد هو عن نفسه : لله الواحد القهار ..
_ أتذكرون كم تفاخرنا بأنسابِنا وآباءنا وأبناءِنا وعزوتِنا ؟. وها هو المرء يفر اليوم من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه .
_ أتذكرون وقت أن كنا نعصى الله ثم نستغفره فيغفر لنا ؟. اليوم رفعت الأقلام وجفت الصحف ..
عاد الميت ينظر إلى أرض المحشر .. فاذا بهؤلاء يأكلون لحم طيرٍ مما يشتهون . وهؤلاء ليس لهم طعامٌ إلا من غِسلين . هؤلاء يُسقَون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً . وهؤلاء سُقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم . هؤلاء حُشروا ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيْمانهم . وهؤلاء حُشروا عُمياً وزُرقا . هؤلاء وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة . وهؤلاء وجوههم عليها غَبَرَة ترهقها قترة .. هؤلاء سيماهم فى وجوههم من أثر السجود . وهؤلاء يُدعون اليوم للسجود فلا يستطيعون .
غَرُب الميت بوجههِ عن أرض المحشر متوجهاً إلى الله عز وجل وبصوتٍ ضارعٍ نادمٍ قال : رب ارجعون لعلى أعمل صالحاً فيما تركت .. قيل له : كلا إنها كلمةٌ أنت قائلُها ومن ورائك برزخ إلى يوم يبعثون .. قال : رحمتك سبقت عذابك ووسعت كل شئ فاكتبها لى . قال رب العزة :