قصة_قصيرة بعنوان
أمَلٌ وَإِرَادَةٌ
كتب محسن معالي
أنهى الخدمة العسكرية ، وَخَرَج للحياة والعمل منْ جَدِيدٍ ، كَانَ الطموح يملأ قلبه ،
والثقة بالنفس ترفع رأسه لِعَنانِ السماء ، وقتها كان مقيدا في كلية الآداب قسْم اللغة العربية وَآدي بِهَا، بالفرقة الثانية
عَادَ لعَمَلِهِ في
الإسكندرية بإحدى شركات الغزل والنسيج فَعَمَلُه الإنتاج بقسم التدوير الوردية الثالثة ،
وَهُنَاكَ التَقَى بِعَدَدٍ مِنَ الأَصْدِقَاءِ الذِينَ نَصَحُوه بِأَنْ يَتَقَدَّمَ بِطَلَبِ لِرَئِيسِ القِطَاعِ الإِدَارِي للعَمَلِ بِوَظِيفَةٍ تُنَاسِبُ شَهَادَةَ الثَّانَوِيَّةِ العَامَّةِ ،
خَاصَّةَ أَنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْهَا في الجِيشِ ، إِذْ أَمْضَى ثَمَانيةَ عَشَرَ شَهْرًا بِفَضْلِهَا ،
فَهِيَ مُؤَهَّلُ مُتَوَسِّطُ ، وَبِغَيرِهَا تَطُولُ المُدَّةُ لِتَصِلَ ثَلَاثَ سَنَوَاتِ ،
وَسَعَى فِعْلًا لِوَظِيفَةٍ أَعْلَى ، دُونَ تَحْدِيدٍ لَهَا ، فَالأَمْرُ لَيْسَ سَهْلًا مَيسُورًا ؛
فَقَدْ تُتَاحُ لَهُ وَظِيفَةُ وَزَّانَ بِمُؤَهَّلِ الإِعْدَادِيَّةِ ، وَهُوَ مَنْ يَتَسَلَّمُ الإِنْتَاجَ من العمَّالِ ،
وَيُسَجِّلُهُ في سِجِّلَّاتِ الإِنتَاجِ ، وَعَلَى أَسَاسِهِ يَتَقَاضَى العَامِلُونَ أُجُورَهُمْ في نَهَايَةِ المُدَّةِ.
كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ تَحْقِيقَ هَذَا الهَدَفِ لَنْ يكُونَ سَهْلَ المَنَالِ ؛
فَالإِدَارَةُ لا تُفَرِّطُ بِسَهُولَةِ في العَامِلِينَ بِالإِنْتَاجِ ، وَلَكِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَتَدَخَّلَ مُدِيرُ أَمْنِ الشَّركَةِ ،
وَيسْعَى لتَعْيينَهُ (ضَابِط أَمْنِ) تَحْتِ الاخْتِبَارِ لِحَاجَةِ العَمَلِ ،
لِوُجُودِ نَقص في الكَفَاءَاتِ لِهَذِهِ الوَظِيفَةِ ، خَاصَّةً بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ اكتَسَبَ خِبرَةً الأَمنِ فَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ في أَمْنِ قِيَادِةِ اللِّوَاءِ في الجِيشِ ، فَكَانَتْ هَذِهِ فُرْصَةً للشَّرِكَةِ للِحُصُولِ عَلَى عُنْصُرِ أَمْنِ لدَيهِ الِخبْرَةِ في العَمَلِ ، فَتَمَّ قَبُولُهُ للعَمَلِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَحْتَ الاخْتِبَارِ طِبْقًا للقَانُونِ.
وَهُنَا ظَنَّ أَنَّ الدُّنيَا ابتسَمَتْ لَهُ ، وَمَارَسَ عَمَلَهُ في الوَظِيفَةِ الجَدِيدَةِ بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ ، وبَذَلَ مَا في وِسْعِهِ مِنْ طَاقَةٍ ، إِذْ كَانَ مِنْ وَاجِبَاتِ الوَظِيفَةِ المُحَافَظَةُ عَلَى تَوْقِيتَاتِ حُضُورِ وَانْصِرَافِ العَامِلِينَ
بِالمَصَانِعِ ، وَالإِشْرَافُ عَلَى حِمَايَةِ أَمْنِ المَصَانِعِ مَنَ الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ ،
وَغَيرَ ذَلِكَ.
اسْتَمَرَّ العَمَلُ نَحْوَ أربعَةِ أشْهُرٍ ، وَلَكِنْ حَدَثَ مَا لَمْ يَكُنْ في الحُسْبَانِ !!.
إِذْ تَغَيَّرَ رَئِيسُ مَجْلِسِ إِدَارَةِ الشَّرِكَةِ ، وَجَمَعَ الرَّئِيسُ الجِدِيدُ الصَّلاحِيَاتِ كُلَّهَا في يَدِهِ ،
وَمِنْ ثَمَّ تَمَّ إِلغَاءُ جَمِيعِ الانتِدَابَاتِ ، وَإِعَادَةُ العَامِلِينَ المُنتَدَبَينَ لِوَظَائِفِهِمِ الأَصْلِيةِ ، وَبِالطَّبعِ إِلغَاءُ انْتِدَابِهِ ، وَعَوْدَتِه للعَمَلِ بِقِسْمِ التَّدْويرِ ، وَكَانَ هَذَا القَرَارُ يُمَثِّلُ صَدْمَةً كَارِثِيَّةً لَهُ ،
فَكَيْفَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ ؟
لَقَدِ ارْتَقَى ، وَشَغَلَ مَكَانًا رَفِيعًا يَحْظَى بِاحْتِرَامِ النَّاسِ !
وَلا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ المَنَاصِبِ تَجْلِبُ مُشْكِلَاتٍ مَعَ غَيرِ الأَسْوِيَاءِ خُلُقيًا.
لِذَا فَقدْ نَصَحَهُ بَعْضُ الأَصْدِقَاءِ بِالبَحْثِ عَنِ وَظِيفَةٍ جَدِيدَةِ ،
وَعَدَمَ القَبُولِ بِالأَمرِ الوَاقِعِ بِالعَوْدَةِ للعَمَلِ بِالوَرْدِيَّةِ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَدْ رَأَى أَنَّ العَودَةَ يَلُوحُ في أُفْقِهَا الشُّعُورُ بِالإِهَانَةِ.
وَلكِنْ كَيفَ السَّبِيلُ إِلى ذَلِكَ ؟!!!!
فَهُوَ رَبُّ أُسرَةٍ :
أُمٌّ وَإِخْوَةٌ وَأَخَواتٌ ، نَعَمْ كَانَتْ أُسرَةً فَقِيرَةً ، تَقْتَاتُ مِنْ رَاتِبِهِ الضَّئِيلِ ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ؟
يا إِلهي!!!
إِنَّ الإِحسَاسَ الذِي شَعُرَ بِهِ مِنَ الإِحبَاطِ ، وَالأَلَمِ لا يَستَطِيعُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ ، فَهُوَ مَزِيجٌ مِنَ المَشَاعِرِ ،
كَمَنْ كَانَ يَسِيرُ في طَرِيقٍ ، فَلمْ يَجدِ الطَّرِيقَ ، لِيَسلُكَهُ ، وَلَا الأرضَ تَحْتَ قَدَمَيهِ لِيَسِيرَ عَلَيهَا ،
وَجَعَلَ يَشْعُرُ ، كَأنَّمَا يَسْقُطُ مِنْ بِنَايَةٍ شَاهِقَةٍ في فَضَاءٍ ، وَلا يجِدُ مَا يمْسِكُ بِهِ ، وَيَتَشَبَّثُ ،
أَوْ مَنْ يَأْخُذْ بِيَدِهِ ، لَحَظَاتٌ لا يَشْعُرُ بِهَا إِلَّا مَنْ كَابَدَهَا ، وَذَاقَ للخِذْلَان طَعمًا ، وَعَايَشَهَا ، وَلِمَ لا ، فَهُوَ يعْمَلُ في هَذِهِ الشَّرِكَةِ مُنْذُ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةِ بالوَرديَّاتِ ، وَلَنْ يَترُكَهَا بِسَهُولَةٍ، وَجَعَلَ يُفَكِّرُ بِعُمقٍ ، تَذَكَّرَ قَولَهُ تَعَالى:
( وَمَنْ يتَّقِ يجعل لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحتَسِبُ)
وَمِنْ ثَمَّ لَجَأَ للحَصَولِ عَلَى إِجَازَةٍ مَرَضِيَّةٍ ، وَلَمْ يُنَفِّذْ تَعْلِيمَاتِ رَئِيسَ مَجْلِسِ الإِدَارَةِ
وَقَرَّرَ شَرحَ موَقِفِهِ ، فَأَرْسَلَ لَهُ رِسَالَةً شَرَحَ لَهُ فِيْهَا ظُرُوفَهُ الخَاصَّةً ،
إِلَّا أَنَّ هَذَا المَسؤولِ كَانَ مُصِرًّا عَلَى مَوْقِفِهِ بِشَكْلٍ عَجِيبٍ ، وَقَالَ لَهُ جُمْلَةً مَازَالَ أَصَدَاؤُهَا في أُذُنِهِ إلى الآنَ :
« يَا بنِي حَتَّى لَوْ أَخَذْتَ اللِّيسَانِسَ لَنْ أُشَغَّلَكَ عَنْدِي» .
يَا لَهَا مِنْ عِبارَةِ قَاسِيَةِ !!
هَذِهِ العِبَارَةُ كَانَتْ تَحْمِلُ في طِيَاتِهَا الكِبْرَ وَالعَجْرَفَةَ ، وَالصَّلَفَ ، تِلكَ العَقلِيَّةُ البَالِيةُ ، التِي أَضَاعَتْ مَصَانِعَ القِطَاعِ العَامِ .
وَأَرْدَفَ قَائلًا :
اذْهَبْ لَعَمَلِكَ في الوَرْدِيةِ ، فَأَنتَ تُؤَدِّي عَمَلَكَ.
وَللأَسَفِ الشَّدِيدِ ذَهَبَتْ مُحَاوَلاتُ الشَّابِ لإِثنَائِهِ عَنْ قَرَارِهِ عَبَثًا ، فَقَدْ كَانَ شَخْصًا عَجِيْبًا لا يَرَى الصَّوَابَ إِلَّا فِيمَا يَقُولُ : فَهُوَ وَحْدَهُ مَنْ يَمْلُكُ مَقَالِيدَ الأُمُورِ ، وتِلكَ كَانتْ سِمَاتِ قِيَادَاتِ شَرِكَاتِ القِطَاعِ العَامِ الذِينِ لا يَسْمَعُونَ إِلَّا أَنفسَهُمْ ، فَأَهدَرُوا مُقَدَّرَاتِ البِلادِ .
خَرَجَ مِنْ مَكتَبِ المَسؤولِ الكَبِيرِ في ذُهُولٍ ، غَيْر مُصَدِّقٍ لِمَا قَالَ هَذَا الرَّجُلُ .
مَرَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ،
وَهْوَ يَعمَلُ في عَمَلِهِ الجَدِيدِ الذِي فُرضَ عَلَيهِ ، وَلم يَتَغَيَّرْ شَيءٌ ، فَظَلَّ يَبحَثُ عَنْ مَخرَجٍ لهَذَا المَوْقِفِ الصَّعبِ قَبْلَ أَيَّامٍ مِنْ عِيدِ الأَضْحَى المُبَارَكِ في عَامِ (1981م)،
وَلَكِنْ حَدَثَ مَا لم يَكُنْ في الحُسْبَانِ ، إِذْ حَدَثَتْ مُشْكِلَةٌ في قِطَاعِ الأَمْنِ بِالشَّرِكَةِ في الفَرْعِ الرِّئيسيِّ بِالنُّزهَةِ،
فَاضْطَرَّ مُدِيرُ الأَمْنِ بِالشَّركَةِ ، إلى الاستعَانَةِ بِهِ بَعْدَ أَنْ أَجبِرَ المَسؤُولُ عًلًى المُوَافَقَةِ هَذَا الرَّجُلِ المُتَعَجْرِفِ،
وَلَكِنْ هَيْهَات هَيهَات ، فَبالبَحثِ عَنهُ وَجَدُوهُ يَعمَلُ مُدِيرًا للأَمْنِ بِإحدَى الشَّرِكَاتِ الكُبرَى ، وَلَم يَعُدْ مُحتاجًا للعَمَلِ السَّابِقِ.
إِنَّهَا إرَادَةُ اللهِ ، نَفَذَتْ مَشِيْئَةُ اللهِ ، وَبَطُلَ تَوَعُّدُ المَغرُورِ ، إذْ أنعَمَ اللهُ عَلَيهِ بِعَمَلٍ أَرْقَى مِمَّا كَانَ يَعمَلُ ، وَهُنَا أَيقَنَ أَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ مَنْ أَحسَنَ عَمَلًا .


































































