الكاتب / إسلام الجزار
قليلون يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا بالأمس فقط… كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب. ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.
{جرأتي راحت
… ولا أعرف أين
بسمتي ضاعت
… ودمعي بين بين
الهوى خجلان
…. رامي الوجنتين
وحنيني لك
… مكتوف اليدين
أنا لا أشكو
… ففي الشكوى انحناء
وأنا…
نبض عروقي كبرياء}
دخل كامل الشناوي عامه السابع والخمسين كما يدخل الكهل شيخوخته، تكاثرت عليه الأمراض، وساعدها على ذلك بنمط حياته الموغل في الفوضى والسهر والنهم للطعام دون تقدير عواقب، مرة من وعكة كبرى واثنتين، وغادر سريرا في مستشفى ليستقر في سرير من دون جدوى، ليس من العلاج، لكن من سلوكه الذي لم يحتم به جسده الذي كانت الصدمة الكبرى أنه يعاني من {السكر والكبد والالتهاب الرئوي وتسمم الدم}، وكان يقول لأصدقائه:
– {قال لي طبيبي إن نسبة السكر في دمي قد ارتفعت بصورة تدعوني إلى الحيطة والحذر، وأخذت منه قائمة الأدوية، وأحسست وأنا أضعها في جيبي أن رصيدي من الأدوية قد تضخم، وهكذا أصبح لي رصيدان بلغا الضخامة والجسامة أقصى الحدود… رصيدي من الأدوية… ورصيدي من الديون}.
ورغم ذلك كله ظل يسرف في الممنوعات من طعام وسهر ومجهود يصاحب كل هذا، مع عدم قدرته على الالتزام ببرنامج يحتوي الآثار السلبية لبدانته، ويقلل وزنه. وقبل عيد ميلاده الأخير، غافل أصدقاءه الذين كانوا يجهزون للاحتفال، دخل المستشفى، وتحلق الأصدقاء حول سريره، وكان من بينهم محمد عبد الوهاب وزوجته نهلة القدسي التي وعدت كامل بأن تنظم له سهرة بديعة للاحتفال بعيد ميلاده بعد شفائه، وأن تدعو كل أصدقائه، فرد الشاعر الممد على سرير المرض:
– {هذه المرة سيطول الرقاد}
نجاة كامل
اختفت صفحته التي كان يحررها في جريدة {الأخبار}، وحلّ محلها تقرير خبري كبير تحت عنوان:
– {نجا كامل الشناوي من الموت بمعجزة… قال المفتي: كان الأمل واحدا في الألف}.
و}المفتي} هو الدكتور أنور المفتي الطبيب الشهير وقتها، ونقلت القصة أن كامل الشناوي يرقد الآن في حجرة بمستشفى {قصر العيني}، بعدما اجتاز مرحلة الخطورة… إنه لا يعلم حتى الآن كيف فتح عينيه، ليجد نفسه محاطا بالأطباء وأحدث الأجهزة العلمية، ثم يسأل: أين أنا؟ ثم يستنتج أنه في المستشفى، ثم يسأل لماذا جاء إلى {قصر العيني؟} وكيف جاء؟
يجد حوله أصدقاءه من كبار نجوم الغناء والموسيقى والشعر والأدب والصحافة، مصطفى أمين لا يطلب من المحررين خبراً جديداً، لكنه يطلب منهم البحث عن أنبوبة أوكسجين… الدكتور أنور المفتي الذي يعرف حالة الشناوي جيدا هو الذي طلب ذلك، وإحسان عبد القدوس لا يعرف ماذا يفعل، وعبد الحليم حافظ يقف مرتبكاً، ومحمد حسنين هيكل لا يرفع يده عن إدارة قرص التليفون لتوصيله بكل المسؤولين، وبعدها يذهب إلى المستشفى، وعندما يرى الشناوييبكي من شدة التأثر… وهو بين حين وآخر يتحدث وكأنه يسارع بتأكيد معنى لحياته:
– {أنا لا أخشى آخرتي… لأنني أتصورها أكثر جمالاً وفناً وخيراً وحقاً من الدنيا، لقد كنت في شبابي أتهيب لقاء الله، لأنه لم يكن عندي من مؤهلات اللقاء ما يشجعني على أن ألقاه، كان إيماني شعوراً فقط، وقد أصبحت بحمد الله جديراً بأن ألقى ربي في كل لحظة، فأنا أؤمن به بفهم… وأفهمه بإيمان}.
الحب والحياة
وقبل أن يكتمل العام 1965، كان يلقى ربه، تاركاً تجربة عريضة وواسعة كشاعر وصحافي وفنان ومفكر وفيلسوف وإنسان، تراثه وثروته في كلماته ورسائله وأسئلته عن الوجود والحب والحياة.
قال كامل الشناوي:
– لماذا استشعر الكآبة دائماً… لماذا أحس احتراقاً يلهبني ويكويني، كلما فكرت وحدي، وما أكثر ما أفكر وحدي، لقد ظننت أن سر ما أعانيه هو هذا الصراع الطبيعي القائم في كياننا نحن البشر، الصراع بين الجسد والروح. الجسد يحاول أن يقهر الروح، والروح تحاول أن تقهر الجسد، وكل الناس مثلي في هذا الصراع، ولعلي في ذلك أسعد حظاً من غيري، فقد استطعت بحكم السن والمرض ودمامة الشكل، أن أعقد هدنة بين جسدي وروحي، وما أقل الذين استطاعوا ذلك.
– الناس جميعاً يتمنون أن تطول أعمارهم، هذه هي القاعدة، وقد يشذ عنها بعض المفكرين والفلاسفة وهواة الانتحار، ولست والحمد لله واحداً من هؤلاء، ومع ذلك فإني كثيرا ما أتساءل: هل طول العمر نعمة أم عقوبة؟ الموت ليس مشكلة… الحياة هي المشكلة.
– إنني أحب الجمال ولو تحول إلى خنجر يسكن ضلوعي، يجول فيها، ويتلوى ويقفز، أحبه في فكرة، كلمة، لوحة، نظرة، إشارة، شروق، ضباب، حقيقة، خيال، بحر هائج، رياح عنيفة، نسيم ضعيف، نغمة تنساب من حنجرة، آلة موسيقية، أو… كعب حذاء.