كلمة الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمؤتمر باكو الدولي” الحفظ المعرفي للتراث الإسلامي”
كتب – سمير احمد القط
ألقى الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحيم البيومي كلمة علمية مهمة في المؤتمر العلمي الدولي المنعقد في مدينة باكو، تحت عنوان: “الإسلاموفوبيا: فضح التحيز وتفكيك الصور النمطية”، حيث تناول فيها موضوعًا محوريًّا بعنوان: “الحفظ المعرفي للتراث الإسلامي بين فعاليات الواقع واستشرافات المستقبل”، انطلاقًا من رؤية علمية منهجية تؤكد أن تراثنا الإسلامي الزاخر بالعلوم والمعارف يواجه اليوم تحديات كبرى تستدعي إعادة قراءته بوعي عميق ومنهجية دقيقة.
وأكد الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية في كلمته أن الضبط المعرفي للتراث ضرورة ملحة؛ لمواجهة الفوضى المعرفية والتأويلات الخاطئة التي تسهم في تشويه صورة الإسلام، مشيرًا إلى أهمية الجمع بين الأصالة والوعي المعاصر في التعامل مع النصوص التراثية.
واستعرض الأمين العام للمجلس الأعلى الرؤية المنهجية المتكاملة (دوائر العلم الأربع) التي وضعها الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف، والتي تسعى وزارة الأوقاف والمجلس الأعلى لتطبيقها، حيث إنها تمثل خريطة معرفية دقيقة لضبط التعامل مع التراث، وتتلخص في أربع دوائر مترابطة:
١- دائرة الفهم والإفهام: التي تدعو إلى الغوص في أعماق المعاني وفهم السياقات التاريخية واللغوية للنصوص، ثم نقل هذا الفهم إلى الآخرين بلغة ميسرة وواعية.
٢- دائرة التثبت والتوثيق: التي تضمن صيانة النصوص التراثية من التحريف، وتقوم على التحقيق الدقيق، وفحص الأسانيد، والرجوع إلى المصادر الأصلية.
٣- دائرة الحجية والتحليل: التي تهدف إلى استنباط الأحكام والرؤى الفكرية من التراث، وتحويله إلى إطار مرن قادر على معالجة قضايا العصر.
٤- دائرة بناء الإنسان: وهي الغاية القصوى للضبط المعرفي، حيث يتحول التراث إلى مصدر لبناء الإنسان خُلُقًا وفكرًا وسلوكًا.
وختم سيادته كلمته بالتأكيد على أن هذه المنهجية تُمكِّن الأمة من أن تنتقل من مجرد حفظ التراث إلى تفعيله في بناء المجتمعات، ومواجهة التحديات، وتقديم رؤية إسلامية أصيلة تسهم في بناء عالَم أكثر عدلاً وتسامحًا.
وقد لاقت الكلمة استحسان الحضور؛ لما تميزت به من عمق علمي، وأصالة منهجية، واستحضار فعّال لأدوات التجديد التي تدفع بتراث الأمة نحو آفاق حضارية جديدة.
جاء ذلك في إطار توجيهات معالي الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف بالمشاركة في أعمال المؤتمر العلمي الدولي الذي عُقد بالعاصمة الأذربيجانية باكو، والمشاركة في الفعاليات العلمية الدولية التي تخدم قضايا الأمة وتُسهم في تصحيح الصورة الذهنية عن الإسلام.
وهذا نص كلمته بالمؤتمر: “إن تراثنا الإسلامي، ذاك البحر الزاخر من العلوم والمعارف، يقف اليوم أمام تحديات جمة تستدعي منا إعادة قراءته بوعي عميق ومنهجية رصينة، فبين دعوات التجميد التي تحصر الفهم في قوالب جامدة، وتيارات التسييل التي تذيب كل ثابت، يبرز صوت التجديد الذي ينادي بضبط معرفي للتراث، ضامناً أصالة الفهم وفاعلية التطبيق، وفي هذا السياق، تتجلى أهمية الرؤية المنهجية للأستاذ الدكتور أسامة الأزهري في “دوائر العلم الأربع” كبوصلة ترشدنا في غمار هذا التراث العظيم، مُحققةً الضبط المعرفي الذي نطمح إليه.
لماذا الضبط المعرفي؟
إن الفوضى المعرفية التي قد تسود في التعامل مع التراث الإسلامي، تُنتج تصورات مشوهة، وتطبيقات خاطئة، وتأويلات خاطئة، تحدّ من قدرة الأمة على الاستفادة من كنوزها المعرفية، فالتعامل مع التراث يتطلب فهمًا عميقًا لسياقاته التاريخية، ولغاته المتعددة، ومقاصده السامية، فبغير هذا الضبط يتحول التراث إلى مجرد نصوص جامدة تُتلى، أو آراء مبعثرة تُجمع، أو حتى أدوات للصراع والدمار، فالضبط المعرفي هو إذن عملية حيوية؛ لضمان أن يكون التراث مصدر إلهام وتوجيه، لا مادة للجمود أو الفوضى.
بوصلة دوائر العلم الأربع:
إن تراثنا الإسلامي، ذاك البحر الزاخر بالعلوم والمعارف، يمثل منارة هادية للأمة ومخزونًا حضاريًا لا يُقدَّر بثمن، ولكن كما هو الحال مع كل ثروة عظيمة، فإن التعامل مع هذا التراث يتطلب منهجية دقيقة تضمن فهمه الصحيح، وحفظه من التحريف، واستثماره الأمثل في بناء الإنسان والمجتمعات، هنا تبرز رؤية الدكتور أسامة الأزهري في “دوائر العلم الأربع” كبوصلة معرفية فريدة تضبط التعامل مع هذا التراث العظيم، وتقدم نموذجًا متكاملًا للتعامل مع هذا التراث العظيم في ضوء تحديات العصر.
أولًا: دائرة الفهم والإفهام، وفيها يتم الغوص في أعماق المعنى، حيث تبدأ رحلة الضبط المعرفي لدائرة الفهم والإفهام، هذه الدائرة لا تقتصر على مجرد قراءة السطور، بل هي دعوة للغوص في أعماق المعاني، واستكشاف الأبعاد الخفية للنصوص التراثية باستخدام فهم النصوص يتطلب إدراكًا عميقًا لسياقاتها التاريخية، واللغوية، والثقافية، فكثير من الإشكالات المعاصرة تنشأ من قراءة مجتزأة أو سطحية لتراثنا، تتطلب هذه الدائرة تضافر جهود المتخصصين في اللغة، والتاريخ، وعلوم الشريعة لفهم مراد المتكلم في كل فن، في هذه الدائرة يتوجب على الباحث أن يتسلح بأدوات المفسر، والمحدث، والفقيه، والأصولي، على سبيل المثال: عند دراسة نص حديثي لا يكفي معرفة متن الحديث فقط، بل يجب فهم سنده، ورواياته المختلفة، وأسباب وروده، والمقاصد الشرعية التي يرمي إليها، وكذلك الأمر في فهم آيات القرآن الكريم، فالتفسير لا يقف عند حد المعنى اللغوي، بل يتعداه إلى معرفة أسباب النزول، والمكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والربط بين الآيات والسور لإدراك المقصد الكلي للخطاب القرآني.
أما الإفهام فهو يمثل الجانب التطبيقي للفهم، فليس الغاية من الفهم مجرد الاستيعاب الشخصي بل نقله إلى الآخرين بأسلوب واضح وميسر يتناسب مع مستوياتهم المعرفية المختلفة، وهذا يتطلب امتلاك مهارات العرض والتبسيط، والقدرة على تفكيك القضايا المعقدة إلى عناصرها الأساسية، وتقديمها في قالب جذاب ومقنع، فالإفهام هو جسر التواصل بين التراث والأجيال الجديدة، وهو الذي يضمن استمرارية الفهم الصحيح والعميق لدقائق هذا التراث.
ثانيًا: دائرة التثبت والتوثيق، فمن خلالها تتم صيانة التراث من التحريف والعبث، لذا تُعد دائرة التثبت والتوثيق بمثابة الحارس الأمين على التراث، فكما أن فهم التراث أمر جوهري، فإن صيانته وحفظه من التحريف والعبث لا يقل أهمية، وفي هذه الدائرة يتم التركيز على الجانب المنهجي الذي يضمن صحة النصوص وسلامتها من أي تغيير أو تبديل.
فالتوثيق لا يقتصر على مجرد جمع المخطوطات وطباعتها، بل يشمل التحقق من صحتها، ومقارنتها بنسخ متعددة، وتحديد أصح الروايات وأكثرها دقة، ففي علوم الحديث، تُعد هذه الدائرة من أهم الدوائر حيث يتم فحص أسانيد الأحاديث، ومعرفة رجالها، وتوثيقهم من حيث العدالة والضبط، وتمييز الصحيح من السقيم، وكذلك في علم التفسير، يتم توثيق القراءات القرآنية المتواترة والشاذة، وبيان وجوهها.
أما في الفقه والتاريخ الإسلامي، فإن التوثيق يتطلب الرجوع إلى المصادر الأصلية، وتجنب الاعتماد على النقول غير الموثقة أو المقتطعة من سياقها، وهذا يتطلب معرفة واسعة بالمصادر التاريخية والجغرافية، والتمييز بين الأخبار المتواترة والآحاد، وبين ما هو ثبت تاريخيًا وما هو مجرد روايات ضعيفة أو موضوعة.
ثالثًا: دائرة الحجية والتحليل، وهي تعني استنباط الأحكام وبناء الرؤى، فبعد دائرة الفهم والتوثيق تأتي دائرة الحجية والتحليل، هذه الدائرة هي التي تحول التراث من مجرد نصوص جامدة إلى مصدر للأحكام، والقيم، والرؤى التي توجه حياة المسلم، فالحجية تعني القدرة على استنباط الأحكام الشرعية والقيم الأخلاقية من النصوص التراثية، والتعرف على مدى صلاحيتها للاستدلال في قضايا العصر.
والتحليل يتطلب استخدام أدوات المنطق والعقل، والقدرة على استخلاص الأصول من الفروع، والتفريق بين القطعي والظني، والمحكم والمتشابه، ففي الفقه يتم تطبيق القواعد الأصولية لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص مع مراعاة مقاصد الشريعة، وفقه الواقع، وتغير الأزمنة والأمكنة، وهذا يعني أن التراث ليس مجرد مجموعة من الأحكام الجامدة التي تطبق حرفيًا بل هو إطار مرن يسمح بالاجتهاد والتجديد بما يتفق مع روح الشريعة ومقاصدها.
وفي مجال الفكر الإسلامي، تتجلى هذه الدائرة في تحليل النظريات الفلسفية، والكلامية، والصوفية التي وردت في التراث، وتقييمها في ضوء معطيات العصر الحديث، على سبيل المثال: تحليل قضايا الحرية، والعدالة، والعلاقة بين الدين والدولة في ضوء الفكر الإسلامي، واستنباط الرؤى التي تسهم في بناء مجتمعات أكثر عدلًا ورخاءً.
إن هذه الدائرة هي التي تمكننا من إعادة قراءة التراث بعين ناقدة وبناءة، واستثمار كنوزه في حل مشكلاتنا المعاصرة.
رابعًا: دائرة بناء الإنسان، وفيها ينتقل التراث من المعرفة إلى العمل، فتتوج هذه الدوائر بدائرة بناء الإنسان، وهذه الدائرة هي الغاية القصوى من كل عملية ضبط معرفي للتراث، فالتراث ليس مجرد موضوع للدراسة والبحث، بل هو مصدر لإلهام الإنسان، وتزكية روحه، وتهذيب أخلاقه، ودفعه نحو العمل الصالح، والعطاء، والبناء، في هذه الدائرة يتم تحويل المعارف المستخلصة من التراث إلى قيم سلوكية، ومبادئ أخلاقية، وتطبيقات عملية، فالإنسان الذي يفهم التراث ويوثقه ويحلله يجب أن يكون هو نفسه ثمرة لهذا التراث، وهذا يعني أن التراث يجب أن ينعكس على شخصيته، وسلوكه، وعلاقاته بالآخرين، وإسهامه في مجتمعه.
بناء الإنسان يستلزم التركيز على الجوانب التربوية والأخلاقية في التراث، مثل قيم الصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان، والتسامح، والرحمة، كما يتضمن تنمية روح المبادرة، والإبداع، والتفكير النقدي، والقدرة على مواجهة التحديات بروح إيجابية.
إن بناء الإنسان هو الذي يضمن أن التراث لن يبقى حبيس الرفوف، بل سيتحول إلى قوة دافعة للتغيير والإصلاح، ولبناء حضارة إسلامية معاصرة ترتكز على مبادئ الحق والعدل والخير.
خاتمة:
إن دوائر العلم الأربع للدكتور أسامة الأزهري تمثل خريطة طريق متكاملة للتعامل مع تراثنا الإسلامي العظيم.
إنها منهجية علمية رصينة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتضمن فهمًا عميقًا للتراث، وصيانته من التحريف، واستثماره في بناء الإنسان والمجتمعات، بتطبيق هذه الدوائر، يمكننا أن نتحول من مجرد مستهلكين للتراث إلى بناة ومجددين، قادرين على تقديم رؤية إسلامية أصيلة، تتجاوز التحديات، وتساهم في بناء مستقبل مشرق لأمتنا والعالم أجمع”.