“لوحة المجاعة: صدى فرعوني لقصة نبي؟ ”
بقلم الباحثة
جيهان سيد محمد
لوحة المجاعة هي عبارة عن صخرة كبيرة منقوشة في جزيرة سهيل جنوب أسوان، نُقشت على كتلة من الجرانيت مستطيلة الشكل، بالخط الهيروغليفي في عهد البطالمة، وتحتوي على 42 عمودًا، ويظهر أعلى اللوحة ثلاثة معبودات مصرية، يتقدمهم خنوم، وأمامهم زوسر حاملًا للقرابين في يديه.
خنوم هو أحد أقدم المعبودات المصرية، وكان يُعبد على أنه إله الخلق والمياه والفيضان.
صُوّر غالبًا برأس كبش، واعتقد المصريون أنه يشكّل البشر من الطين على دولاب الفخّار، ومن هنا جاءت تسميته بـ”الخالق على عجلة الفخّار”.
تتميز اللوحة بواجهة صخرية بارزة تواجه النيل مباشرة، نُقشت عليها المعبودات بحجم أكبر من الشخصيات البشرية الأخرى، مما يعكس مكانتهم الدينية عند المصريين القدماء.
تقص نقوشها أنه حدث في العام الثامن عشر من حكم الملك زوسر – نثر خت – مجاعة بسبب حالة جفاف، سببه انقطاع الفيضان لمدة سبع سنين، فقلت الحبوب والمحاصيل، وشعر الشيوخ والشباب والأطفال بالمجاعة، حتى الملك نفسه لحقه الضرر، فأرسل إلى وزيره إيموحتب ليبحث في الأمر وأسبابه.
وقد أثارت قصة المجاعة المنقوشة على اللوحة تساؤلات عديدة بين الباحثين، حيث لاحظ البعض تشابهًا مذهلًا بينها وبين قصة مجاعة سيدنا يوسف عليه السلام، كما وردت في القرآن الكريم، والتي استمرت أيضًا سبع سنوات.
هذا التماثل العجيب في عدد السنوات، وسياق الجفاف، ودور الشخصية الحكيمة التي تتدخل لحل الأزمة (إيموحتب في مصر القديمة ويوسف في الرواية الدينية)، جعل البعض يتساءل:
هل من الممكن أن تكون لوحة المجاعة هي الصدى المصري الوثني لقصة يوسف؟
هل تحفظ جدران جزيرة سهيل رواية فرعونية لقصة نبي؟
ورغم غياب الدليل القاطع، يظل هذا التشابه الغريب واحدًا من أكثر جوانب اللوحة إثارة وغموضًا، مفتوحًا على احتمالات لا تزال قيد البحث والنقاش حتى اليوم.
ويُعد إيموحتب من الشخصيات البارزة في تاريخ مصر القديمة، فهو لم يكن مجرد وزير بل كان مهندسًا وطبيبًا، ويُنظر إليه كأول من وضع أسس الطب في العالم القديم.
ومن ثم عاد إيموحتب للملك يخبره أن هناك قرية تُدعى آبو (أسوان حاليًا، أو بالأدق جزيرة أسوان) هي المهد الذي ينشأ الفيضان عنده، وأن المعبود خنوم هو المسئول عن الفيضان، فسارع زوسر بتقدمة الأضاحي والقرابين لمعبودات هذه المنطقة، وبعد ذلك يُقال إن الملك زوسر رأى حلمًا يظهر فيه المعبود خنوم للملك زوسر، ويقول له:
“أنا خنوم خالقك، أنا من يرسل يديه من ورائك لأكفل لك التأييد وأهب بدنك العافية، أنا الذى أوجدت اليابسة ووهبتك أحجار الجرانيت منذ القدم، فشيد الناس بها المعابد وجددوا بها المنهدم، أنا نون العظيم الموجود منذ الأزل، أنا الفيضان الذى يرتفع حيث شاء”.
فبعدما أفاق زوسر من رؤياه، آمن أن خنوم وحده هو صاحب السيطرة، فأوقف التقديمات لغيره، وجعل لمعبده الحق في تحصيل ضريبة العُشر من صيد الأسماك والطيور وأعمال المحاجر، بل وأرسل أيضًا مرسومًا خاصًا له.
لم تنجُ من جدل العلماء، فانقسمت الآراء لقسمين: هناك من يرى أن القصة مختلقة من كهنة خنوم في المنطقة لاستعطاف ملوك البطالمة بعد أن طغت شهرة المعبودة إيسة على المعبود خنوم، ويوافق ماسبيرو هذا الرأي.
وهناك من يرى أن القصة لها أصل قديم، وكُتبت في عصر الدولة القديمة ولكنها تُلفت، فلما زار أحد الملوك البطالمة – ويُعتقد أنه بطليموس العاشر (سوتر الثاني) – قص عليه الكهنة القصة كاملة، فأمر بإعادة نشرها وتجديد معبد خنوم في جزيرة سهيل، ويوافق كورت زيته هذا الرأي، وهو التفسير المقبول حتى الآن.
ولا تزال لوحة المجاعة قائمة في جزيرة سهيل، يُقبل عليها الزوّار والسائحون، ويتناقل المرشدون قصتها، باعتبارها من أقدم النقوش التي جمعت بين الأسطورة والتاريخ في مصر القديمة.
ـ جيهان سيد محمد