مدينتى الحلوة.
مدينتى الحلوة.
محمد خضر
ربما تكون مفاجأة لايعلمها كثير من أهل المحلة أن مدينتهم العتيقة والقديمة قدم التاريخ ذاته ظلت تعيش فوق الماء لعهود طويلة وأنها كانت أشبه “بالبندقية” المدينة العائمة والشهيرة فى ايطاليا وذكرها شمس الدين المقدسي المتوفي 380 هجرية في كتابه ” أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ” بالمحلة الكبيرة ووصفها بأنها ذات جنبين أحدها ” سندفا ” والآخر ” المحلة ” والناس يذهبون ويجيئون في الزوارق لأنه ليس بين المحلة وسندفا جسر يعبرون عليه ويؤكد ذلك الخريطة النادرة التى نعرضها لأول مرة وهي لبندر المحلة عام 1889 وعملت بمعرفة صالح أفندي المهندس بنظارة الأشغال العمومية ..
الخريطة تشير بوضوح إلى أن المحلة كان يحيط بها ويخترقها ثلاثة أنهار أو بحار كما كان يحلو للناس أن يطلقوا عليها ، الأول وهو” بحر الملاح” وتم ردمه خلال فترة الخمسينيات و يبدأ من عند ” الشون ” حيث كان للمحلة ميناء بحرى فى تلك المنطقة ويمتد أسفل القنطرة التى كان يمر فوقها قطار السكة الحديد الحالى بطول شارع وابور النور حتى يلتقى بالترعة الملاحية عند قرية كفر حجازى ..
وكانت وسائل نقل المحاصيل والبضائع وقتها هى الجمال للمسافات القصيرة أما المسافات الطويلة فمن خلال المراكب الشراعية فى النيل والتى كانت تجلب أيضا المنتجات الفخارية من الصعيد ” البلاليص والقلل القناوى والقصب “
واشتهرت المحلة فى بداية القرن الماضى بوجود العديد من المقاهى الفخمة ذات المستوى الرفيع كانت تسمى ” البورصة ” معظمها يطل على هذا النهر ولا يفصلها عن بعض سوي مسافات قليلة وكان لكل مقهي مساحة مخصصة في الهواء الطلق بجوار سور بحر الملاح يتم فرشها بالموائد والشماسي البيضاء ، أما مباني البورصة فكانت مصنوعة من أجود أنواع الأخشاب ومفروشة بالسجاد والحرير منها ..
” بورصة الكلوب “لصاحبها الخواجة اليونانى ” سبيرواسترفينوس “وتولي مسئوليتها بعد ذلك الخواجة ” اندريا ” وكانت ملتقي الجاليات الأجنبية بالمحلة وكبار التجار والأعيان ورجال السياسة وبها صالة خاصة للعبة البريدج وطاولة للبلياردو الفرنسي وشهد هذا المقهي العديد من الذكريات الجميلة لملك مصر فؤاد الأول الذي كان يعشق السهر والجلوس بداخله عند زياراته المتكررة لمدينة المحلة قبل تولية مسئولية عرش مصر حيث كان دائم التردد على قصر زوجته الأولي الأميرة ” شيو كارهانم ” الذي يقع بالقرب من قرية ميت عساس بجوار المحلة وارتبط فى هذه الفترة بصداقات مع أهل المدينة والعديد من أبناء الجاليات الأجنبية ورجال المال والسياسة أمثال نعمان باشا الأعصر عضو مجلس الشيوخ ، البدراوي باشا عشور المليونير المصري محمد بك صيام ، محمد بك البابلي ، التركي محمد باش الذي كان يشرف علي حلقة الجندي للقطن بشارع تقسيم الإسكندرية ” مكان جراج شبل الحالى ” ، سوسو البدراوي ، محمد حزه تاجر الماني فاتورة .. ..
“بورصة الزجاج ” وكانت تقع بجوار دكان لومومبا بائع الصحف فى مواجهة بحر الملاح وشهدت عناية فائقة من صاحبها الخواجة ” فواكليه ” حيث كانت مقرا لطبقة المثقفين والأفندية العاملون بالبنوك ومحالج القطن وكان بها مكتبة صغيرة تضم العديد من الكتب الأجنبية والمترجمة
“بورصة سميراميس ” وكان صاحبها محلاوى يدعي حسن الخولي وتقع علي ناصية شارع العباسي الذي افتتحه الخديوي عباس حلمي الثاني خلال زيارته للمحلة عام 1914 حيث تم شق هذا الشارع لكي يربط قلب المدينة والمناطق التجارية بمحطة السكة الحديد وكان هذا المقهي يضم العديد من ألعاب النرد ويتردد عليه العمال والتجار أصحاب المهن المختلفة
“بورصة النيل” وتقع على ناصية شارع أحمد ماهر لصاحبها محمود الألفى ثم حسن الجعلى
“بورصة مصر “لصاحبها المعلم علي وتقع علي ناصية شارع الحنفي ومكانها حاليا مطعم البغل ومحل زهرة اليمن لتجارة البن وكان يتردد علي هذا المقهي معظم تجار الأقمشة والحرير والماني فاتورة الذين يعملون بسوق السلطان
“بورصة بلدز ..” للخواجة طناش ومستر حنيكاتى
وقد اندثرت معظم هذه المقاهى بعد ردم هذا الفرع وأصبح أحد أهم الشوارع الرئيسية بالمحلة وأطلق عليه شارع البحر ثم شارع 23 يوليو عقب ثورة 52
أما الجانب الآخر الذى يقع شرق بحر الملاح والمعروف حاليا بمنطقة السبع بنات فتشير الخريطة بأن أغلبه كان قطعا من الأراضى الزراعية والبور ولم يشغله سوى
مدرسة القديس أغسطينس ” الفورير” التى أنشئت عام 1890 وبالقرب منها وابورحلاقة للخواجة اليونانى “ينى كبرياؤس ” والذى آلت ملكيته بعد ذلك لشركة الإسكندرية التجارية
ثم مبنى السكة الحديد وتميزت المحلة بوجود خطين للسكة الحديد بها نظرا لأهميتها الاقتصادية أحدهما يتبع الحكومة المصرية وكان لها شبكة ممتدة إلى داخل محالج القطن والآخر سكة حديد الدلتا وكانت تتبع شركة انجليزية ..
ولم يكن يربط شرق المدينة بأحيائها القديمة سوى كوبرى الأنجليز الذى كان يقع فى مواجهة دور سينما المحلة الحالى وبجواره وابورحلاقة لصاحبه الخواجة الإنجليزى “أولبرايت بيل ” وعلى بعد خطوات وابورالحلاجة الذى تملكه الإنجليزى ( كارفل) والمعروف ( بمحلج الانجليز ) وكان يقع خلف بنك مصر بجوار مستشفى المبرة واشتراه بعد ذلك الخواجة ( باندليه ) ثم آلت ملكيته لشركة الدلتا لحليج الأقطان بعد قرار التأميم وحاليا أصبح مجرد أطلال وقام بنك مصر بالحجز عليه
أما البحر الثانى وهو ” ترعة المعاش ” فكان يخترق أحياء المحلة القديمة ويفصل بين منطقة صندفا ومنطقتى الوراقة وسوق اللبن والمنطقة الأخيرة كانت تعرف قديما ” بتل الواقعة ” وهى بالفعل عبارة عن مناطق مرتفعة تشبه التلال حتى الآن حيث كان قدماء الفراعنه يحرصون على إقامة مساكنهم فوق المرتفعات تحسبا لفيضان النيل ، وعرفت المحلة فى عهدهم بإسم “ديدوسيا ” نسبة لنبات يشبة التيل من أليافه صنع القدماء المصريون ملابسهم .. وكان يربط صندفا بسوق اللبن قنطرة صغيرة أسمها ” قنطرة المدبح ” لوجود مجزر للمواشى والأغنام بجوارها كما أطلق على هذا النهر الخليج المصرى ولما ردم هذا الفرع من النيل ظل الشارع يحمل أسم الخليج المصرى .. ثم سعد زغلول بعد ثورة 1919 بينما أطق عليه عامة الشعب بحر الششتاوى لمروره أمام ضريح سيدى مصطفى الششتاوى أبوزهرة المتوفى عام 1300 هجرية 1879 ميلادية وحفيده هو الشيخ والعالم الجليل محمد أبوزهرة ، ومن أشهر معالم منطقة صندفا دار الشرطة ومقر العمودية وكانوا يسمونه ” وكالة الناظر ” وكان مقرها بأول شارع برهام ومبنية بحجارة ضخمة بيضاء تم استجلبها من القاهرة وظل أثر المبنى موجودا فى مكانه حتى نهاية الستينيات وبعد هدمه تحول إلى موقف للحمير التى تنقل الفلاحون ببضائعهم المختلفة من القرى المجاورة للمحلة أما الأرض التى كان مقام عليها ” حمام البلدية ” وهى فى منتصف المسافة بين ميدان أبو حشيش ومسجد المنسوب فكانت مشغولة بمبنى من ثلاثة طوابق يستخدم جزء منه مستشفى عام لعلاج جميع الأمراض وكان أسمه ” الاشله ” والجزء الباقى كان ( سجن ) خاص للمحكوم عليهم بالإعدام وتنفذ فيه الأحكام .. فى حين كانت هناك قنطرة أخرى بالقرب من سلم منطقة التوبة أسمها ” قنطرة نيروز ” وبجوارها وابور حلاجة للأمير حسين باشا يكن ، وبحارة المحجوب عند جامع أبو العباس وابورا للخواجه موسي حنا معد لحلج القطن وطحن القمح وكان يقع علي ترعه في وسط البلد ( بحر الششتاوى ) ويضم نحو عشرة بساتين بعضها نخيل خالص وبعضها يشتمل علي أشجار الزيتون والفاكهة والأزهار ويزرع بداخلها القصب وأنواع الخضر وفيها سواقي تديرها البقر ( الخطط التوفيقية 1885 م – على باشا مبارك الجزء الخامس عشر ص 20)
أما البحر الثالث ” ترعة سنديون ” فكان يحيط بالمحلة من جهة الغرب وعرف بين الناس ببحر اليمانى نظرا لمروره أمام ضريح سيدى محمد اليمانى ..وعن طريقه هاجم الجنود الفرنسيين مدينة المحلة أيام الحملة الفرنسية على مصر بعد أن زحفوا إليه عن طريق بحر سمنود وحاول الجنود الغزاة السيطرة على تل الواقعة بعد الهجوم عليه من الخلف لكن أهل المحلة التحموا معهم فى معركة عنيفة مما اضطرالفرنسيين لدك حى الشوافعية بالمدافع وظل بعض الأثر للمنازل المدكوكة واضحا فى نهاية شارع الشريف حتى فترة الستينيات .. ويقول الجبرتى : ثم نزل الفرنسيون على البلاد عام 1214 هجرية ومرت طائفة منهم على المحلة فتعصب أهلها واجتمعوا عند القاضى وخرجوا لحربهم ، فكمنوا لهم ودارت المعركة بينهم على التل الذى كانت تقوم عليه ديدوسيا والذى عرف بتل الواقعة ولم يزل آهلا بالسكان فوقه ومن حوله وانتهت المعركة بسقوط مايزيد عن ستمائة فرد من أهالى المحلة الكبرى وقتل القاضى واستولى الفرنسيون على المدينة ونقلوا عاصمة الغربية منها إلى سمنود..
وفى بداية العشرينيات ردم هذا الفرع وأصبح يحمل أسم شارع ” نعمان باشا الأعصر” عمدة المحلة وأحد قادة الحركة الوطنية والذى ساهم بماله الخاص فى دفع تكاليف الإنارة والمياه والصرف الصحى لمدينة المحلة وهو أحد مؤسسى بنك مصر وله فضل فى إقامة شركة مصر للغزل والنسج وكان أول نائب يمثل المحلة بمجلس الشيوخ عام 1924.. ومن أعمال الباشا البطولية أنه اشترك فى ترتيب هروب ( أحمد حلمى صلاح ) أحد أبناء المحلة الأبطال الذين حكم عليهم بالإعدام بسبب قتل جندى بريطانى قام بالتحرش مع زملائه بإحدى الفتيات من قرية دمرو وهى المشاجرة التى عرفت بمعركة كوبرى الانجليز ، واشترك فى هذا العمل المجيد البرنس إسماعيل داود .. وبعد تهريبه من السجن تم ضبطه ثم العفو عنه من حكم الإعدام ، بعدها سافر أحمد حلمى صلاح إلى الخارج وتخصص فى دراسة هندسة البواخر وكان أصلا طالبا فى مدرسة الفنون والصنايع بالعباسية وعاد من بعثته وتخصصه وعينه جلالة الملك قائدا فى البحرية التجارية ..
وحتى بداية الخمسينيات من القرن الماضى كانت الحدائق والبساتين والمنتزهات المليئة بالورود والزهور وتكعيبات العنب تعم أرجاء مدينة المحلة والتى تميزت بوجود عدة فرق للموسيقات النحاسية والقرب كان أكبرها وأشهرها فرقة موسيقى ملجأ الأيتام بالمحلة التى كانت المصدر الرئيسى والمدرسة التى تقدم خريجيها لفرق الموسيقى بالبلاط الملكى وفرق الموسيقى العسكرية بالجيش المصرى .. وفرقة المايستروحسين الكحكى .. وعائلة البيطار ، وصلاح الأبيض وأخوته عازفى المزامير وكان لهذه الفرق أيام فى الأسبوع يجلس أفرادها داخل أكشاك الجناين والحدائق تصدح بالمقطوعات لكى تدخل على نفوس الشعب البهجة والسرور ..
ومن أشهر هذه الحدائق: “المنتزه العام” الذى أصبح مقرا لمجلس المدينة الحالى وكان به ملعبا صغيرا لكرة القدم ومضمارا لألعاب القوى أنشأه البرنس اسماعيل داود.
حديقة البنا .. والتى أصبحت المدينة الصناعية غرب المحلة عند سيدى اليمانى
حديقة الزغل .. وكانت تشمل جميع المساحات عند مقابر سيدى خلف والمعروفة حاليا بأرض الزغل
حديقة الكاشف .. بحوض الوزيرية وكانت أكبر الحدائق مساحة وتشغل الأرض المقام عليها الآن سوق الجملة للخضر والفاكهة والمدارس المحيطة به
حديقة قصر محمد بك البابلى .. وكانت تقع فى محلة البرج
الحديقة الواسعة التى أصبحت فيما بعد شونة للأقطان بمحلج بيل .. وكان الناس يتخذونها مقرا تبدأ منه زفة أولادهم عند الطهارة ( الختان ) حيث اعتاد أهل هذا الزمان أن يخرج الطفل يمتطى حصانا مزركشا تتقدمه الزينات والطبول والموسيقى
بستان المعلم يونان .. المعروف بسيدهم ، ويقع فى الجانب الشرقى لبحر الملاح
بستان الأمير محمد بك المنشاوى..
بستان ورثة المرحوم شكيب بك ..
كما اشتهرت المحلة بعادات وتقاليد مميزة فى كافة النواحى .. ومن التقاليد المألوفة لدى البسطاء فى زمانهم ” زفة العروسة ” وكانت تبدأ من مكان أسمه “خوخة العرايس” وهى حارة ضيقة كانت تتفرع من شارع ” الأمير عنقا ” الخديوى توفيق حاليا ، وهى المنطقة التى تسمى الآن ” بدرب العلوة ” وكانت بديلا للكوافير حتى نهاية فترة الستينيات .. حيث كانت العروس تذهب إلى الزقاق لتتجمل وتتزين وتخرج وعلى وجهها شال أحمر من الرأس إلى القدمين أما على رأسها فكانت توجد حلية تشبه التاج يتدلى منه خيوطا من الفضة ، ويكون فى الانتظار على مدخل الخوخة ” نموسية ” حمراء ومحمولة على أربعة أعمدة تدخل العروس بداخلها وتمشى تتهادى ومن خلفها المدعوين والمدعوات والبلانة التى زينتها تسند العروس من الخلف أثناء السير ويحمل أهلها كرسيا لتستريح أثناء الطريق إذا لزم الأمر.. وكان فى نهاية كل عمود من أعمدة النموسية هلال تحته منديل مزركش يسمى محرمة يكافأ به فى نهاية الزفة حامل العمود وكان من مظاهر التفاوت الاجتماعى عدد الأطفال الذين يحملون الشموع فى صفين متوازين والاستعانة بأحد الفرق الموسيقية المشهورة للاحتفاء بالزفة..
أما أفراح الأغنياء .. فكانت تقام لها السرادقات التى تضاء بنجف تختلف أحجامه بعدد الفناير ( الفروع ) التى بها الشموع وهى ما بين أربعة وأربعين ..
وكان السرادق يحاط من جميع جوانبه بأعداد كبيرة من الكلوبات بارتفاع متر وبداخلها لمبات رقم ( 30 ) تضاء بالجاز .. وأرضية السرادق تفرش بالأبسطة والسجاد ويستمر لمدة أسبوع ..
ومن تقاليد الثراء دعوة (على بك كشكش ) وكان يحضر من القاهرة خصيصا لعمل الحلويات وأنواع السلطة وكان للفقراء النصيب الأكبر فى الأفراح التى يدعون إليها أما الزفة .. فكانت تتم فى عربات الحنطور التى تستدعى خصيصا من القاهرة وهى تشبه عربة الخديوى تجرها أربعة من الخيول أو ستة ومغطاة بأغطية مزركشة بيضاء وبجوار كل حصان ” سايس ” يلبس ملابس خاصة أشبه بحرس الخديوى ، ويقف خلف الحنطور ” سايسان ” يلبسان سراول مزركشة بالقصب ويشهر كل منهما سيفا ..
وكان أهل العروس يحرصون على شراء مستلزمات الفرح والفستان من محلات مدكور بالقاهرة والتى كانت تنافس فى شهرتها كبرى المحلات الباريسية والانجليزية ..
بهذه المظاهر البسيطة .. والعادات الفريدة .. عاش أهل المحلة أيام زمان .. لم يشغلهم مظاهر التفاوت الإجتماعى بين الأغنياء والفقراء .. فقط كان يكفيهم الحب والرضا والطيبة التى تجمع بينهم فى المناسبات والاحتفالات والأعياد ..