موكب المومياوات مجد تاريخي بأهداف معاصرة
كتبت .الشاعرة المغربية جليلة خليفة
متابعة د.عبدالله مباشر رومانيا
موكب المومياوات كان إطلالة ملكية بما حملته أمجاد الفراعنة، من جمال تاريخ خلدت رونقه أعمال فنانين ومهندسين وأطباء وخطاطين نبغوا في عصورهم، إلى جانب كفاح الفرسان والحكماء وتناقضات سيرهم وأحكام الضغوط منهم أحيانا وعليهم أحيانا أخرى. لكنهم سادوا بجميع انتماءاتهم على العوالم حولهم، وحفروا بمنجزاتهم الرهيبة مثل كل عظماء الأرض صفحة الزمن إلى يومنا هذا.
وقد انشغلت وسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف تياراتها ومنافذها ومختلف نظرياتها وأحكامها، بالموكب الذي أحيط بكافة أشكال الإجلال سواء من فن التصوير والتركيز على روعة الأضواء وخشوع المشهد، إلى مد لم يتوقف من فخر بالأصول ضم جميع المصريين بلا استثناء.
فتوقفت كل النعرات وكل مخلفات التقسيم السياسي والفكري، لينضم الجميع في لحظات فارقة من عصر مصر الحديث، بعد كل الهزات والزلازل التي عصفت بأرجائها، إلى ظل وحدة أشرقت بأمل جديد في رؤية مصر مستقبلا، وقد ارتدت عباءة منسوجة بضرورة التواصل وإجبارية التسامح كي تظل جميع مواطنيها باسم التاريخ المشترك.
يكفي أن تاريخ البلدان يظل صانعا لرونقها السياحي، والموكب أيقظ الضمير الوطني داخل مصر والإنساني خارجها، فكان خير شاهد على جذب القلوب والعقول إلى معابد قد تكون قديمة وأموات ربما هم مجرد محنطين في أعين معارضيه، وأهرام تلامس القمم رغم كونها حجارة في حكم البعض. لكن الأمر هو في حقيقته ملف مثقل بالفنون والإبداع، وروائع التشييد أكثر من كل أساليب العنف حينها. ولم يخلد سوى بقلوب حامليه المشرقين بالترحيب والود لزوارهم من مختلف الآفاق، ورعاته الذين سهروا على خلود محتوياته بأعينهم وطاقاتهم، من عمق الصعيد الأصيل نحو مدن مصر العامرة كلها.
الموكب الملكي المبهر تناولت سيرته مختلف الناس على اختلاف طوائفهم المختلقة، وتوحد بالجمال والأصالة في قلوب جميع من شاهدوه عبر بقاع الأرض كلها. ومهما تساءل البعض ما فائدتها لشعب يكافح ويناضل بعد كم الأزمات، فالجواب للسؤال هو هذا الشعب نفسه على تنوع فئاته حين يفهم رسالة المومياوات عبر ظلال الموت، فيحافظ أفراده حكاما ومحكومين على الحياة بجبر الضرر وتقديس الوطن واعتدال التواصل، وحوار حضاري لا يتوقف مع مؤيدين ومخالفين إكراما لهذا الوطن.
فلا بلدا وجد بنفس الجنس والفكر تعنتا وتعصبا وقتلا، وإلا لكان اندثر من قديم الأزمان. فحوار الحضارات لا يتقنه سوى من عرف الحضارة وشمخ بخضرتها عصورا، وترك لأحفاد ترابه ملاحما لا تنسى بالذكرى وجميل العمل. ولكي يزداد أي بلد شموخا ورفعة فهو ليس محكوما بحراسة القديم فقط، بل بإضافة أعمال سيذكرها كل جيل قادم كما لازال الجميع يحكون إلى اليوم إبداعا في كل مجال إنساني، عن عهود فراعنة أرض مصر
فمصر التي تبهر العالم اليوم بأولادها القدامى، لا أظنها ستخذل أبناءها اليوم إذا ما توحدوا في محبة الأرض والسماء، بالعمران والرغبة في الغرس والحصاد تحت راية حب الآخر. وليكن جلال الموكب الملكي فتح صفحة جديدة للمصالحة مع الذات للتمكن، من مد اليد نحو الآخر بالوحدة والتضامن والمشاركة والغفران.
فتاريخ مصر يخص المصريين في راي محدودي الأفق، لكنه يتوسع رغم كل جبروت الحدود إلى ما وراء حدود مصر، ليشمل جميع من يحبونه ويخترقون أرض الله من أقصاها إلى أدناها للتمتع بهيبة أرواح لا تموت، ويستحضرون بعقلانية وروحانية على السواء عالما لم يعد أهله بيننا، لكنهم عملوا بجد وإيمان بالعلم فأتقنوا فنون الغيب رغم قسوة الرحيل بلا عودة نحو عوالم المجهول المظلم. فأضحى الموت اليوم باسمهم رسالة حياة إلى من يؤمنون بخلود الأعمال وزعامة المحبة، ومن لازالوا مستمرين في نبش مقابر الكره والإلغاء وتصفية الحسابات العقيمة، وطلب علا لا يؤتى بقوانين الدم والحضيض، في عصر أصبح من يتخلف عن ركب مقدمته يظل منبوذا في الوراء.
فليكن موكب المومياوات الجميل الأنوار والمعنى والهدف معبرا من نور، نحو مستقبل تنويري تعليه أسمى قوانين الإنسانية، في سبيل تشييد صرح مواطنة منفتحة على جميع مواطنيها وعلى كل الأوطان.
_جليلة أحمد خليفة _