تحول زلزالي في ميزان القوى العالمية
نبيل ابو الياسين
في عالم يموج بالتحولات، حيث تتسارع وتيرة الأحداث وتتبدل موازين القوى، يلوح في الأفق نظام عالمي جديد تتشكل ملامحه تحت قيادة الصين، بينما تترنح القوى التقليدية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، في غياهب التراجع والابتعاد عن الساحات الدولية الفاعلة، تبرز “بكين” كلاعب أساسي يرسم قواعد اللعبة وفق شروطه الخاصة، وهذا التحول ليس مجرد تغيير في الأرقام، بل هو زلزال حقيقي يهز أركان التعددية، ويهدد بتمكين الاستبداد في جميع أنحاء العالم، في خضم هذا المشهد المتغير، تتكشف مؤامرة المساعدات “الصهيو-أمريكية” في غزة لتؤكد أن الصراع يتجاوز السياسة ليلامس جوهر الإنسانية.
واشنطن تترنح وبكين تتقدم
لقد حذّر كبار المستشارين السابقين في بعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، جانا نيلسون وكريس لو، من أن ابتعاد واشنطن عن الأمم المتحدة وتقليص تمويلها سيؤدي إلى تحول زلزالي في القوة العالمية، فبينما كانت إدارة ترامب تسعى لخفض مليارات الدولارات من التمويل الأمريكي لعمليات الأمم المتحدة، بما في ذلك بعثات حفظ السلام، كانت الصين تستعد لملء الفراغ، وهذا النهج “بالمنشار” تجاه المنظمة الدولية، والذي طال أيضاً الإدارات والوكالات الحكومية الأمريكية، ليس جديداً على المتشددين المحافظين، لكنه هذه المرة قد ينجح نظراً لديناميكيات الكونغرس، مما يدفع التعددية نحو شروط الصين.
الأمم المتحدة: إصلاح أم انهيار؟
تأسست الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية بهدف تعزيز السلام والأمن، وقد نجحت في تحقيق هدفها الأساسي بمنع حرب عالمية أخرى، بالإضافة إلى عملها التحويلي في قضايا لا حصر لها، من التنمية وحقوق الإنسان إلى أزمة المناخ والصحة العامة، ومع ذلك، وبعد ما يقرب من 80 عاماً، لا يمكن إنكار أن الأمم المتحدة أصبحت مفارقة تاريخية وبحاجة ماسة إلى إصلاحات جذرية. فبينما سعت إدارة بايدن للعمل داخل النظام لتحسين فعاليته، يبدو أن إدارة ترامب تميل إلى الانسحاب الكلي، مما يهدد بتلاشي نفوذ الولايات المتحدة وترك مساحة أكبر للصين لتشكيل الأجندة العالمية.
التعددية بدون أمريكا: دروس من الماضي والمستقبل
لقد اختبرنا بالفعل كيف تبدو التعددية بدون مشاركة الولايات المتحدة خلال إدارة ترامب الأولى، حين انسحبت واشنطن من اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان، وقد أظهرت التجربة أن التعددية يمكن أن تستمر، لكن بتأثير أقل للقيم الأمريكية، فإذا تراجعت الولايات المتحدة، سيتلاشى نفوذها، وستفقد قوة التصويت والمقاعد الرئيسية على الطاولات الدولية، مما يسمح للصين بتشكيل جداول الأعمال، وهذا ما حدث في الاتحاد الدولي للاتصالات تحت قيادة مواطن صيني، حيث استفادت بكين لتعزيز معاييرها الفنية ومصالح شركاتها، بل ودفع الاستبداديون لفرض قيود على الإنترنت، مما يهدد بدمج الاستبداد في بنية الويب العالمية.
معركة تحديد المستقبل: الذكاء الاصطناعي والقيم العالمية
إن هذا الصراع لا يقتصر على المنافسة بين القوى العظمى، بل يتعلق بوضع القواعد العالمية لكيفية عمل جميع البلدان، فمع انتشار الذكاء الاصطناعي، ستكون مؤسسات مثل الاتحاد الدولي للاتصالات واليونسكو محورية في معالجة المخاطر مثل المعلومات المضللة والتحيز الخوارزمي، ومن خلال إزالة نفسها من هذه المداولات، تتنازل الولايات المتحدة عن الفرصة لتشكيل المعايير العالمية، مما يسمح للدول ذات الآراء المختلفة بشأن الخصوصية وحقوق الإنسان بتحديد المستقبل، وهذا يضر في نهاية المطاف بشركات التكنولوجيا الأمريكية التي تقود العالم حالياً في تطوير الذكاء الاصطناعي، ويضع القيم الديمقراطية على المحك.
مؤامرة المساعدات الصهيوأمريكية: فشل مدوٍ ونداء للضمير
على جانب آخر، وعلى الرغم من التحولات العالمية الكبرى، فإن الأزمة الإنسانية في غزة تتكشف لتكشف مؤامرة بشعة، والشركة الأمريكية التي أُنشئت بالتنسيق مع إسرائيل لتوزيع المساعدات في جنوب قطاع غزة، بهدف تهميش دور الأمم المتحدة وفرض السيطرة الأمنية، قد فشلت فشلاً ذريعاً، ولقد استولى الغزيون على المساعدات والمعدات، وهرب المسلحون التابعون للشركة، بل واستدعى الجيش لإنقاذ موظفيهم، ومكتب الإعلام الحكومي في غزة وصف العملية بالفشل المدوّي.
متواصلًا: وأن ما حدث دليل قاطع على فشل الاحتلال في إدارة الوضع الإنساني الذي أوجده متعمداً، وهذه المطة ليست مجرد خطأ إداري، بل هي جريمة ممنهجة للتجويع والابتزاز، وتؤكد أن المساعدات أصبحت فخاً يعرض حياة المدنيين للخطر، وتحول المعونة لأداة إخضاع، وندين استخدام الاحتلال للمساعدات كسلاح حرب، ونطالب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بتحرك فوري وفعال لوقف هذه الجريمة، وفتح المعابر بشكل عاجل ودون قيود، وتمكين المنظمات الإنسانية من أداء مهامها بعيداً عن تدخل الاحتلال وأجنداته الخبيثة.
وختاماً: صرخة في وجه التخاذل
إن ما يجري اليوم ليس مجرد صراع سياسي عابر، بل هو محك حقيقي للضمير الإنساني والأخلاقي العالمي، وإن كشف المخططات الخبيثة للتحكم في المساعدات وفشلها المروع، بالتوازي مع تآكل النفوذ الأمريكي في الأمم المتحدة، يمثل لحظة فارقة في تاريخنا، ودماء الأطفال الأبرياء التي تلتهمها الكلاب في شوارع غزة، وصمت الأنظمة المتخاذلة، وفيتو الدم الأمريكي، كلها حقائق تصرخ في وجه كل من يدعي الإنسانية، وعلى الأمم المتحدة أن تنتفض من رماد تواطؤها، وعلى الشعوب أن تواصل صرخاتها، فالتاريخ لن يرحم ولن يغفر لمن اختار الصمت في وجه الإبادة، أو من حاول التلاعب بآلام الضحايا.