متعة السعاده
بقلم بسمه جمال
السَّعادة قبل أن يسأل عنها الإنسان ويبحث في أسبابها، بل ربَّما كان السِّر في الاهتداء إليها هو إراحة النَّفس من السَّعي نحوها، فإنَّها رضًا يُهتدى إليه وليست غنيمةً تتحصَّل عليها بطحن الصُّخور ، وإن كان العمل يجلب السَّعادة وأخذ أسبابها يقرِّبها إلَّا أنَّ الرُّوح هي الأصل في كلِّ ذلك، فإنَّ من النَّاس من يسعى طوال حياته ولا يعرف طعم الهناء ولا يلتمس الرِّضا، ومنهم من ضاقت عليه الأسباب وعدم الوسيلة لبلوغ الغايات البعيدة إلَّا أنَّه للسَّعادة أقرب
فالحياة تحكم الإنسان بطبعه أكثر ممّا يحكمها، فالسَّعادة والطُّمأنينة ورضا النَّفس هي أرزاقٌ من مقسِّمِ الأرزاق، يهديها إلى النَّاس أكثر ممّا يهتدون إليها ، فإنَّ من عرف السَّعادة في الحياة صاحب حظٍّ كبيرٍ ونعمةٍ غامرةٍ حُرِم منها كثيرون غيره، وهو بذلك أدرك كلَّ شيءٍ وإن كان ينقصه الكثير، وأمَّا من افتقد هذه النِّعمة فقد افتقد كلَّ شيءٍ وإن اكتملت أسباب الرَّفاه في حياته، وهذا سرُّ الحياة الذي لا يحتكم إلى قواعد واحدة ولا إلى شروط ثابتة يتحقَّق معها الهناء أو ينقطع دونها
أنواع السعادة للسَّعادة طرق عديدةٌ، فلا يجتمع النَّاس في طريقه سعيهم إليها، ولا يتَّخذون طريقًا واحدةً لوصولها، فمن النَّاس من يرى هناءه في الأمور الماديَّة وفي رفاهيَّات الحياة الملموسة، فيسعى إلى امتلاك منزل كبير وسيارةٍ حديثة وملابس والمجوهرات، ويجد في ذلك ما يسعده ويرضيه، ومن النَّاس من لا يعرف راحةً إلَّا بالعمل، فبقدر ما يتعب بدنه ترتاح روحه، وبقدر ما ينجز من أعمالٍ يشعر بقيمته وبوجوده، وغيره من يسعد بالعلم، فيتزوّد منه ما استطاع ويكدِّره انقطاع وصوله، فمتى اقتدر على تحصيله كان مسرورًا وإن أتعبه، و من النَّاس مَن يرى الهناءفي داره ويرى في الزَّواج السَّعيد حياته فيجعل تكوين الأسرة هدفًا.
ولا شكَّ أنَّ السَّعادة يتحصَّل عليها الإنسان من اجتماع كلِّ تلك العناصر معًا، إلَّا أنَّ لكلِّ امرئٍ أسبابه الملحَّة ونظرته الخاصَّة إلى أمرٍ الذى يلتمس فيه السُّرور أكثر من سواه، ومن النَّاس من لا يعنيه كلُّ ذلك، ويمدُّ حبالًا تصله بالله يلتمس في صلته هذه السَّعادة، ويصل إلى أعلى درجات الزُّهد بالدُّنيا ويرضى منها بما يمدُّه بالقوَّة ويبقيه حيًّا ليتمكَّن من التَّعبُّد والتماس سعادة روحه فيما يصله بالله من ذكرٍ وعملٍ صالحٍ وعلمٍ نافعٍ ينشد فيه أوَّلاً وأخيرًا رضوان الله وبركته.
العاقل مَن أدرك أن مسرَّات الدُّنيا فانيه فلاتلهيه عن آخرته، ومن عمل لآخرته وتنعَّم فيما آتاه الله في دنياه، وقد قيل في ذلك: “اعمل لدُنياكَ كأنَّك تعيش أبدًا، واعملْ لآخرتِكَ كأنَّك تموتُ غدًا”، فعلى الإنسان أن يراعي أمور دنياه دون أن ينسى آخرته، وأن يصنع لآخرته دون أن يهمل دنياه، تختلف نظرة الإنسان إلى السَّعادة وفهمه لها من عمرٍ إلى آخر، ومن مرحلةٍ إلى أخرى، فما يسعدنا في السَّنوات الأولى من حياتنا يختلف عمَّا يسعدنا حين نصل للعشرين ، وهو ما يختلف أيضًا عمَّا يسعدنا حين نصبح بالغين راشدين، ويستمرُّ هذا التَّغيير إلى أن يوارى واحدنا التُّراب، فالتَّجارب بدورها تغيِّر نظرتنا إلى الأمور، فمن طرأت له علَّةٌ أو أمسك به مرضٌ ثمَّ شفي منه ليرى السَّعادة كلّها في العافية، فقد عرف بالسّقم قيمة العافية، وأدرك بالألم نعمة الصِّحة فتنبَّه إلى ما غفل عنه غيره ممَّن لم يطرأ عليهم مرض.
الفطنُ من عرف ما يسعده، والتمس ما حوله من نعم مهما صغرت فإنَّ غيره في عوزٍ إليها، وإنَّ من النَّاس من إذا حانت ساعته تمنَّى لو ازداد عمره ساعة، فطالما أنَّ النَّفَسَ لم ينقطع فإنَّ في الحياة ما يستحقُّ أن نشعر بالامتنان لأنَّنا موجودون، فإنَّ وجودنا معجزة الله الَّتي تستحقُّ أن نحتفي بها ونشكرها بالعمل والسَّعي.