التسلسل التاريخي لقصة إبراهيم (1)
متابعة ناصف ناصف
بقلم الاستاذالدكتورعلاءااحمزاوى الاستاذبجامعة المنيا
ــ وُلِد سيدنا إبراهيم في العراق في عهد النمرود، وكان الناس يعبدون الأصنام والكواكب، ويُروَى أن ظروف مولده تتشابه مع ظروف مولد موسى، ففي العام الذي وُلِد فيه موسى رأى فرعون في المنام أن نارا أتت من ناحية الشام فأحرقت المصريين ولم تصب بني إسرائيل بسوء، ففسّر السحرة الرؤيا بأنه سيولد غلام من بني إسرائيل، وسيكون على يديه هلاك ملكه، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد لبني إسرائيل، فلما ولد موسى خافت أمه عليه، فطمأنها ربنا عليه، الأمر نفسه حدث مع إبراهيم، إذ يُروَى أن النمرود رأى في المنام أن نجما ظهر في السماء فأنارها بنوره، ففسّر الكهنة ذلك بأن غلاما سيولد ويكون على يديه هلاك ملكه، فأمر النمرود بقتل كل طفل يولد في ذلك العام، فلما ولد إبراهيم ذهبت به أمه ليلا إلى مغارة وتركته فيها، وتولى الله حفظه، فألهمه أن يتغذى على أصابعه، فكبر سريعا لدرجة أن أمه جاءت إليه بعد عدة أسابيع فوجدته كبيرا كأن عمره سنتان؛ فرجعت به إلى البيت مطمئنة آمنة عليه، وهذه القصة تبقى احتمالية، فليس هناك ما يؤكدها ولا ينفيها.
ــ عاش إبراهيم في بيت آزر، وثمة اختلاف حول علاقة آزر بإبراهيم، فقيل: هو أبوه لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}، وقيل: هو جــده، وقيل: هو عمّه لإطلاق القرآن لفظ “أب” على الجد والعم، قال أولاد يعقوب له: {نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا}، ويعقوب بن إسحق، وعمه إسماعيل، وجده إبراهيم، فوصفهم القرآن بأنهم آباء، لكن هل هذا الأمر مهم؟ نعم إذ ينبني عليه سؤال: هل يصحّ أن يصطفي الله نبيا أبوه كافر؟ مسألة خلافية، وفي رأيي لا يصحّ؛ ومن ثم فالأرجح عندي أن آزر عمُّه؛ فما اعتاد القرآن أن يذكر اسم الأب مع الابن، ولو كان {آزر} جــدّه لكان منافيا لحديث النبي “ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات”، والشرك مناف للطهارة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، ولما أخبر القرآن أن آزر عدو تبرأ منه إبراهيم، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}، في حين دعا لوالديه بمكة في أواخر حياته، قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، وكلمة (والد} لا تطلق إلا على الأب الذي أنجب، فدل هذا على أن أباه الحقيقي لم يكن مشركا، أما حديث “إن أبي وأباك في النار” فلعله روي بالمعنى، وله رواية أخرى تقول: “إذا مررت بقبر مشرك فبشره بالنار”، وليس في الروايتين دلالة على كفر والد النبي، فالأرجح أن المراد بأبيه عمه أبوطالب، ففي ثقافة العرب النبي ابن أبي طالب، وأما حديث “اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أنْ أسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، واسْتَأْذَنْتُهُ أنْ أزُورَ قَبْرَها فأذِنَ لِي” فلا يؤكد أن أمه كانت كافرة، بل يحتمل أن أمه كانت من أهل الفترة، وسيمتحنهم الله في الآخرة، فلا حاجة للاستغفار لها، أما زيارة قبرها فمن باب البر بالوالدين بعد موتهما؛ ليقتدي المسلمون بالنبي في ذلك، ولا يستريح القلب للقول بكفر والدي النبي ولا الأنبياء.
ــ لما شبّ إبراهيم أخذ يفكر في عبادة الأصنام والكواكب، فلم يقتنع بها، وأخذ يبحث عن الحق حتى ألهمه الله إياه، قال تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ}، وكذلك فعل نبينا فلم ينخرط في عبادة الأصنام، وإنما أخذ يبحث عن الحقيقة حتى هداه الله إليها، لذا قال له: {ووجدك ضالا فهدى}.
ــ ثم انتقل إبراهيم من التفكير إلى مجادلة عُـبّـاد الكواكب بالمنطق العقلي والحجة الظاهرة، وسجل القرآن تلك المجادلة في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}، جـنَّ: ستره بظلامه، وأفــل: غاب، وبازغا: طالعا ظاهرا، وقوله {هذا ربي) من باب الاستدلال والجدال وليس اعتقادا، ثم تركهم بعد أن زعزع عقيدتهم في الكواكب، ويُستنبَط من تلك المجادلة ضرورة “إعمال العقل” في إثبات الحــق، فينبغي أن نفكر ونُعمِل عقولنا فيما نقرأ ونسمع ونشاهد؛ لنميز الخبيث من الطيب، ولنعرف الحق من الباطل، ولنعرف ما ينفعنا مما يضرنا، ثم انتقل إلى مجادلة عُبَّاد الأصنام، فماذا صنع؟ للحديث بقية.