قصة غرام أبدي بقلم الكاتبة جيهان سيد
“أعدكِ أننا سنظل سويًا حتى تُفنى الأكوان“
سرق من القمر ضوءًا ليرى شبح ملامح معشوقته النائمة أمامه على تلك المنضدة الخشبية، نائمة كالملاك، لم يصدق أن هذا الهدوء من قِبل من تعالت صراخها منذ قليل.
أنيس شاب في منتصف العقد الثاني من عمره فقد والده ووالدته في حادث قديم وانتقل للعيش مع عمه، لم يفهم معنى للحياة حتى وجدها تفتح باب شرفتها فأضافت بريقًا للشمس التي تعامدت على وجهها لتبرز ملامحها البريئة لكي تتغلغل في ثنايا قلبه، حينها علم أن للحياة معنى واحدًا فقط وهو لتين.
اتهمهما البعض أنه ليس إلا حب طفولة وأنهما لم ينضجا بعد
ولكن كل هذه الأقاويل تلاشت تمامًا حين تخرج أنيس من كلية الطب وتقدم لخطبتها فزينت دبلته إصبعها الأيمن.
وصل حبهم للذروة فكأنهما جسدان بروح واحدة، تعلق بها أشد التعلق فكانت أمه التي فقدها، وكانت أبيه الصارم أمام تهوره، وكانت ابنته المدللة التي لا يجرؤ على رفض طلباتها، كانت تمثل المعنى الأول والوحيد للحياة عنده.
وقبل زفافهما بأيام قليلة فقدت لتين أخاها الصغير الذي كان بمثابة ابنًا لها، فصارت كأنها كتلة من الحزن أتمت عامها المئة والعشرين أمسًا!
أين لتين التي أحببتها!
أين أمي وأبي وأختي وأخي وعائلتي كلها!
تحولت لمومياء حية لا تأكل ولا تشرب ولا تقوى على الحركة ولا حتى الكلام! فقدت نصيبها من اسمها، فقد كانت تفوق مقاييس الجمال العالمية، أما حاليًا فهي تضع مقاييس جديدة للمجاعات.
عشت شعور الفقدان مرة أخرى، ولكن هذه المرة فقدان الدنيا بأكملها، لم أستطع أن أفعل لها شيئًا، وددت لو نزعت قلبي وخلعت روحي ووضعتها في جسد أخيها ولكنني لم أعرف الوسيلة!
أقسمت لي أنها لن تعود كما كانت، فعلى حد قولها هي فقدت جزءًا من روحها لن يستطيع أحد تعويضه!
تكاثرت الأفكار في عقلي، كنت كالمجنون حينها، فجميعنا يؤمن بالموت حتى وإن لم يؤمن بالإله، جميعنا سنموت، هل ستفقد لتين جزءًا جديدًا في كل مرة؟ هل سيتبقى جزءًا لي!
لم أقوَ على تخيل أن لتين تعيش معي بلا روح، فمن يستطيع العيش بمفرده؟ حتى عيناها التي كنت أستلهم منهما القوة لم تعد قادرة على فتحها!
قرأت الكثير والكثير، سهرت الليالي رغبةً في إيجاد حل، سأفعل أي شيء حتى تعود لتين كما كانت، أي شيء.
ذات يوم طلبت مني والدتها أن نذهب في جولة صغيرة، أمها التي كانت ترفض جلوسنا سويًا في منزلها! أي حالة وصلْتِ إليها يا لتين جعلت أمك تتنازل عن مبادئها!
ما إن رأيتها حتى انفطرت الدموع من عيني، هل هذه لتين؟ لم أشعر إلا وأنا أحتضنها بين ذراعي وأتمتم لها: كل شيء سيكون بخير، سأفعل أي شيء من أجلك.
حملتها وأدخلتها سيارتي المتواضعة، وقد اتخذ عقلي القرار الذي بات فيه أسابيع، لقد حان وقت التنفيذ، فلن أتركها هكذا، سأفعل أي شيء من أجلها.
ذهبت لمكان بعيد في قرية نائية خالية من السكان، وأخرجتها برفق بعدما تأكدت من إغلاق هواتفنا، خبأتها وأحطتها بذراعي مطمئنًا إياها، بدأت أقص عليها خطتي بدون مقدمات في عجالة…
“لقد جربت الفقدان مرة، ولكنني لم أستقبله مثلك، فعلمت أنك لن تتحملي فقدان شخص آخر، لذا فقد قرأت منذ عدة أسابيع عن الخلود، فجاءتني بعض الإجابات الشنيعة فلم أقوَ على الاستمرار في البحث، ولكني كلما رأيت حالتك تسوء كان يعود ذهني لفحص هذه الأفكار أخرى وبدأت في تجريبها وأشعر أنها ستجلب نتيجة، أشعر أنك ستصبحين بخير”، نظرت إلي عينيها وقلت لها في صرامة: “لن تفقدي عزيزًا ثانيةً، سأفعل أي شيء من أجل ذلك، سأفعل أي شيء من أجلك يا لتين، أعدكِ أننا سنظل سويًا حتى تُفنى الأكوان”.
ألقيت بجسدها على الأرض برفق وبطريقة معينة، لم أكترث لصراخها فقد تولى هذا المخدر أمره، أخرجت الورقة التي لازمت جيبي الفترة الأخيرة وجلبت قلمًا من السيارة وبدأت أنفذ الخطوات بالترتيب…
نجمة سداسية، على أطرافها نقطة دماء من مُقدم القربان، تُوضع رأس القربان على الطرف الأيسر، يجلس المُقدم شرق قدم القربان، يتلو التعاويذ من 1 إلى 3 خمس مرات، ثم يجلس غرب رأس القربان ويتلو التعاويذ من 4 إلى 8 ست مرات، …
لن أقص عليكم باقي الخطوات لأنه غير مسموح لي، كنت أسرق من القمر ضوءًا لأتأمل هذه الملامح الهادئة، هذه الملامح التي ستخلد معي، هذه الملامح التي لن ترى الحزن ثانيةً.
أكملت باقي الخطوات السرية ولم يتبقَ سوى الخطوة الأخيرة، للأسف لم أجد أداة مناسبة، ولكني وجدت صخرة لا بأس بها فهرعت إليها ونزلت بها على رأس لتين حتى تهشمت تلك الملامح الحزينة الباهتة، والآن سأهشم رأسي التي جلبت لي تلك الأفكار السيئة حتى تتبدل لأفكار خالدة، ألقيت نظرة أخيرة على لتين المهشمة ووعدتها أننا سنظل سويًا للأبد بعد دقائق من الآن، أعدكِ أننا سنظل سويًا حتى تُفنى الأكوان.