البشرية وغول التقنية
بقلم: أسامة حراكي
تتحدد التكنولوجيا في كونها التفكير العملي، من أجل تحسين وجود الإنسان على الأرض، وتجويده التجويد الذي يجعل حياة الكائن أكثر قابلية ويُسراً، بل لا يمكن حصرها في مجرد آليات تجسد ما في لغته الإنسانية من عبقرية وذكاء وتطور ونماء، لكن محورها وانشغالها يتمثلان في إشاعة المعرفة وترسيخ قيم جديدة تتماشى مع الألفية الثالثة، فإن النزعة الإنسانية تهتم بالوجود الإنساني من خلال إيلائه المكانة اللائقة، وتصونه من عبودية التكنولوجيا، رغم أنها “التكنولوجيا” تبرز ذكاء الإنسان وتمنح للعقل أولوية قصوى، وتحفزه على الإنتاج بدل الركون إلى الاستهلاك والاتكالية المعيقة لكل ابتكار وإبداع، وهي ممارسات لا بد من العمل على تجذيرها في الواقع، والسعي إلى إشاعتها بالشكل المناسب حتى تبلغ الإنسانية مقاصدها المُثلى وتنقذها من السقوط في الهاوية المعتمة.
يجب الإشارة إلى أن التقنية قطعت أشواطاً تاريخية وحضارية حتى بلغت هذا المبتغى الذي وصلته، وهذه طبيعة التاريخ والحضارة، فهما في تحول دائم ومغايرة تستجيب لزمنها وإبدالاتها، ولا غرابة في الأمر مادام الإنسان يمثل الفاعل الرئيس فيها، ذلك أن المتأمل في هذه المنعطفات لابد أن يخلص إلى أن الموجود المؤثر والمتفاعل يُحدث تأثيرات في الحياة، ويخلق مسالك التجديد، ويتسم بتقديم ما يسهم في بلورة تقنية تقوم بدور الميسر لكل المعيقات الممكنة، التي تعيق كل تطور وتقدم.
في المقابل نجد الكائن المنفعل عنصراً سلبياً لا يقدم أي إسهام، بقدر ما يشكّ حاجزاً ومانعاً، ومن ثم يعتبر من الموانع القائمة في بلوغ الإنسانية ما ترتضيه من آفاق مفتوحة على الخلق وكل ما يخدم البشرية. ومع ذلك فبين هذين الكائنين هوة سحيقة لكون الإرادتين متناقضتين متباينتين، ولعل فاعلية الإنسان الغربي أكثر جدية وجدارة من انفعالية الإنسان المنتمي إلى دول العالم الثالث، الذي يعاني من العديد من المثبطات والإكراهات؛ مما يزيد من شقائه ومكابداته، ويغدو تحت رحمة هذه التكنولوجيا المحملة بما يسعف الإنسان على تجاوز وتخطي واقع الحال إلى واقع أكثر سعة ورخاء.
ومن الناس من يعتبر التكنولوجيا إعلاناً عن إفلاس العقلانية التي جاءت بها الحداثة الأوربية، وما أفرزته من قيم جديدة كالحرية والاستقلالية والعدالة والمساواة وتكريس حقوق الإنسان، والأكثر من هذا تعبيراً عن ارتكاسة حضارية تعرفها الإنسانية؛ وهي انعكاس لتغول التقنية في حياة الناس.
في حين نجد موقفاً يناصر أهمية التكنولوجيا ودورها الفعال والأساس بتغيير طريقة التفكير في علاقة الفرد بالجماعة، والجماعة بالمحيط، والمحيط بهذا الفضاء الممتد إلى ما لا نهاية، وفي امتلاك الوعي بأهمية الآلة في تكسير الحدود وتصيير العالم إلى فضاء مصغر تلتقي فيه الإرادات وتتوحد، وتتجسد فيه الآمال والطموحات، وتصبح الأحلام موحدة مادامت التكنولوجيا قائدة هذه التحولات في العقل والشعور، وما تعرفه الإنسانية من تبدلات، سواء تعلق الأمر على جميع الأصعدة اجتماعية واقتصادية وفكرية، إذ نلاحظ على المستوى الاجتماعي أن العلاقات الإنسانية تعرضت لهزات عنيفة من تجلياتها التباعد والانعزالية، وسيادة الفردانية، بالاضافة إلى بروز أمراض اجتماعية كثيرة جراء هيمنة الآلة على حياة الناس، ثم التمزق الذي طال النسيج الأسري بفعل هذه الثورة التقنية الهائلة، والمثيرة للكثير من الأسئلة.
أما على المستوى الاقتصادي، فواقع الحال يؤكد انتشار ثقافة التسليع والتبضيع، إذ أصبحت الكماليات هاجساً يهيمن على تفكير الناس ويؤجج الرغبات والأهواء، وسيادة الماديات على الروحانيات، مما انعكس على الترابط الاجتماعي، في الوقت الذي نعثر على ثقافة الضحالة والتفاهة العنوان البارز لهذه التقنية.
إنها معالم تكنولوجية أفضت إلى تقويض بنية المجتمع والتأثير سلباً على العقل المغيب بالأصل في مجتمع يفضل العيش في الماضي بدل الانخراط في المستقبل، مما يدفعنا إلى القول إن الإنسانية تمر بمرحلة عصيبة وشاقة، نظراً لهذا التشظي الذي تعيشه؛ وعودة التردي بالافكار الرجعية، مما ستكون له آثار وخيمة على الأمن والسلم العالميين.
هذا الاختلاف نابع من زاوية النظر للطرفين، سواء تعلق الأمر بالوجه المشرق للتكنولوجيا أو الوجه السلبي، والأكثر من هذا فهما رأيان صائبان لتجاوز المعيقات التي تحول دون ترسيخ نزعة أخلاقية للتكنولوجيا، تعزز وجود الإنسان وحمايته من السقوط في التهجين والمسخ، ولعل هذا ما تسعى إليه أخلاقيات التكنولوجيا التي تعمل على تجسير العلاقات بين أفراد المجتمع وتعزيزها، دون نسيان الطبيعة البشرية وقدرتها على مجابهة الوجه القبيح للتقنية.
إن إنسانية التكنولوجيا لا يمكن تقزيمها في العلاقات الاجتماعية؛ وإنما ينبغي الاتطلاع بمهمة قدرتها على وضع المسافة بين ما يؤثر سلباً على القيم والإن قدرتها سان وما يُعززها ويقويها، لأن أساس التكنولوجيا تعويضي، رغم أنها تقوم بتيسير الصعاب التي كانت تعترض الإنسان، من تقليص الزمن لقضاء الحاجات والمتطلبات والهوة بين المجتمعات، من حيث فتح المجال للقدرات البشرية في الإسهام في تشييد واقع حضاري جديد، فإذا كانت الطبيعة البشرية تتصف بالعقلانية والعاطفة والوعي والجانب الاجتماعي، باعتبارها مقومات لتحقيق الإنسان المتكامل، فإن التكنولوجيا تقوض هذه الطبيعة ليغدو الإنسان فاقداً للكينونة.
إن الإنسانية تمر بسياقات تثير الكثير من الاستفهامات المحيرة للعقل البشري، هذه السياقات المحفوفة بحزمة من التحولات المنذرة بأخطار محدقة بالمآل الوجودي للبشرية، تضع سؤال الكائن في مواجهة واقع يمر بمنعطف غريب يكمن في الاندحار المهول للقيم الإنسانية، والتراجع المروع للحقوق على كل الأصعدة بفعل سيادة شمولية التحكم، هذا المأزق الكوني يطرح على الإنسانية التفكير في المخرجات الكفيلة لإنقاذ الإنسانية من السقوط في هاوية التفكير الغابوي، الذي بدا واضحاً أنه يُمارس بشتى الوسائل في كل بقاع العالم. والراجح أن هذه الارتكازية الحضارية لم تأت اعتباطاً، بقدر ما كانت نتيجة التغول التكنولوجي من جهة، ومن جهة أخرى جراء السياسة الرأسمالي