أصل الحكاية الحلقة الثامنة عشر الخطر اليهودي “سيناء الحلم الصهيوني”
بقلم رسلان البحيصي
هرتزل والمشروع الاستيطاني لسيناء
منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل عام 1897م بدأهرتزل الأب الروحي للفكر الصهيوني في وضع بنود هذا المؤتمر حيث بدأ في طرح مشاريعه الاستيطانية من أجل إحياء أرض الميعاد إسرائيل.
كانت سيناء مهد مشاريع هرتزل الاستيطانية حيث بدأ في إجراء مشاورات مع بريطانيا من أجل أن تتنازل الأخيرة عن إحدى الأماكن التابعة لها لإنشاء مستعمرة يهودية تكون نواة حقيقية لقيام دولة إسرائيل بعد ذلك وطرح هرتزل عدة بدائل كان أهمها شبه جزيرة سيناء أو جزيرة قبرص وبطبيعة الحال رفضت بريطانيا تماما فكرة إنشاء مستوطنات يهودية في قبرص للأهمية الاستراتيجية للجزيرة بالنسبة لبريطانيا لكونها قاعدة بحرية هامة في شرق المتوسط وطبيعة التعقيدات الديموغرافية الحادة في جزيرة قبرص وانقسام السكان بين قبارصة يونانيين وقبارصة أتراك وبالتالي لم تُعر بريطانيا هذا المشروع أي التفات.
من هنا تركزت الجهود الصهيونية حول سيناء وبدأت اتصالات هامة بين دعاة الصهيونية وبين جوزيف تشمبرلين وزير المستعمرات البريطاني بهذا الشأن ثم انتقلت المفاوضات الصهيونية بشأن مشروع استيطان سيناء إلى عهدة اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر وبدأت مفاوضات جدية في هذا الشأن.
وزين الزعماء الصهاينة لبريطانيا فكرة إقامة مستوطنات يهودية في سيناء بأن سيناء شديدة القرب من فلسطين وبالتالي سيسهل ذلك من انتقال المد الاستعماري إليها ولا سيما مع ضعف الدولة العثمانية التابعة لها فلسطين وحماية قناة السويس وأن استيطان اليهود وتعميرهم لسيناء سيكون أكبر خط دفاعي عن القناة الأمر الذي سيزيل الكثير من القلق البريطاني تجاه أحوال الدفاع عن قناة السويس إذا حدثت حرب عالمية وهكذا تتوافق الأهداف الصهيونية والبريطانية حول حماية قناة السويس ووضعها للأبد تحت السيطرة الاستعمارية الأوربية ومصر عن المشرق العربي وبالتالي سيسهِل من مشاريع التقسيم الاستعمارية للمشرق العربي، هذه المشاريع التي ستتضح بعد عقد اتفاقية سايكس ــ بيكو في عام 1916. كما أن استيطان سيناء ومن الممكن أن يكون نقطة انطلاق بعد ذلك إلى فلسطين وإقامة حلم دولة إسرائيل الكبرى وستفقد مصر سياستها ونفوذها وعلاقتها السياسية والثقافية بالمشرق العربي مما سيحجم من قوة مصر ودورها التاريخي ويسقِط إلى الأبد النظرية التاريخية التي تبنتها مصر منذ فجر التاريخ أن حدود مصر لا تنتهي عند رفح.
تعاطفت بريطانيا مع مشروع هرتزل لاستيطان سيناء وسمحت له بإرسال بعثة فنية استكشافية لإجراء دراسة جدوى حول هذا المشروع وطلبت الحكومة البريطانية من اللورد كرومر تقديم كافة المساعدات والتسهيلات لهذه البعثة والتقريب بينها وبين الحكومة المصرية وأصبحت سيناء من جديد في قلب أطماع الصهيونية.
وصلت البعثة الصهيونية بالفعل إلى مصر في مطلع عام 1903م وكانت مكوَنة من خبراء في مختلف المجالات من متخصصين في المناجم ومتخصصين في الزراعة والخبرات الطبية والمعمارية التي ضمتها البعثة وقامت بزيارة طويلة لسيناء استمرت عدة أسابيع وخرجت البعثة بتقرير غاية في الأهمية والخطورة حيث يرصد الإمكانيات الطبيعية لسيناء وقدرتها على أن تكون وطن قومي لليهود ووضع تصورات لمشاريع استثمارية مستقبلية لسيناء مما يجعل التقرير نقطة البدء والأساس في النظرة الصهيونية والإسرائيلية تجاه سيناء , تم إعداد وكتابة التقرير بشكلٍ خبيث إذ بدأ بمحاولة إثبات حقيقة أن سيناء هي أرض بلا شعب وأرض تكاد تخلو من السكان وبالتالي فإن المشروع الاستيطاني الصهيوني هو محاولة لتعميرها ويهتم هذا التقرير ببيان الفراغ الديموغرافي في شبه جزيرة سيناء وبالتالي الإمكانيات المستقبلية لاستيطان أعداد كبيرة من اليهود فيها فيرصد التقرير أن منطقة وادي الفرما خالية من السكان أما المنطقة الواقعة جنوب بحيرة البردويل بين وادي الفرما ووادي العريش فيقيم فيها عدد قليل من البدو وأغلبيتهم من النساء والشيوخ والأطفال أي أنه لا توجد أياد عاملة شابة وبالتالي فالمجال مفتوح أمام هجرة الشباب اليهودي من أوربا إليها أما عن بحيرة البردويل نفسها فيرصد التقرير وجود عدد قليل من السكان يعمل فقط بصيد الأسماك ويرى التقرير أن منطقة وادي العريش يوجد بها المدينة الوحيدة في سيناء مدينة العريش وهي مقر الإدارة المحلية المصرية ويقدر التقرير عدد سكان العريش بحوالي أربعة آلاف نسمة أما بقية مناطق سيناء في الجنوب فهي تتميز بالندرة الشديدة للسكان بها ويرى التقرير أن شبه جزيرة سيناء شبه خالية من العنصر البشري لقلة الأمطار وندرة المياه وطبيعة البدو الرحل من سكانها في عدم الاستقرار أو الارتباط بأرضٍ معينة فهم دائمي التنقل بين فلسطين ومصر وبالتالي تصبح سيناء أو فلسطين المصرية أرض بلا شعب وهي منطقة جذب للهجرات اليهودية ويهتم التقريربأحوال الزراعة في سيناء أو في الحقيقة مدى جدوى إقامة مستوطنات زراعية في سيناء فيرصد ضعف الزراعة بشكل عام في سيناء لندرة المياه بالمنطقة لذا فالزراعات المحلية هناك تكاد لا تكفي حاجة السكان كما يولي التقرير اهتمام خاص لطبيعة التربة في سيناء ومدى إمكانية الاستثمار هناك فبالنسبة لمنطقة وادي الفرما يرى التقرير أن العيب الرئيسي في هذه المنطقة هو أنها مغطاة بطبقة سميكة من الأملاح وبالتالي فإن أي مشاريع استثمارية زراعية في هذه المنطقة تحتاج إلى بذل جهود كبيرة وأموال طائلة لغسل الأرض من هذه الأملاح حتى يمكن استصلاحها أما المنطقة الرملية الواقعة جنوب بحيرة البردويل فيما بين وادي الفرما ووادي العريش فهي مناطق لا تصلح للزراعة إلا في بعض المناطق المحددة جنوب البحيرة أو جنوب وادي العريش أما المنطقة الأخيرة وتقع في وادي العريش وما أطلق عليه التقرير صحراء التيه فهي منطقة من ناحية التربة فقيرة لاتُقارن بالأراضي الزراعية الخصبة ولكن يرصد التقرير إمكانية زراعتها بمواصفات معينة ومع ضرورة توافر المياه اللازمة كما يشير إلى افتقار سيناء إلى المعادن والبترول والفحم وأنها تكاد تخلو من الثروات المعدنية وحدث جدل كبير بين المؤرخين الذين تعرضوا لدراسة هذا التقرير هل لجأت البعثة الصهيونية في تقريرها إلى إخفاء الإمكانيات الحقيقية لأرض سيناء حتى لا تثير اهتمام بريطانيا بها أو حتى لا تثير حفيظة الحكومة المصرية وبالتالي تظهر سيناء على أنها أرض بلا شعب ولا ثروات ثم يحولها المستوطنون اليهود بعد ذلك إلى جنةٍ زاهرة في حين يرى البعض الأخر من المؤرخين أن البعثة الصهيونية لم تدرك بالفعل إمكانيات سيناء الطبيعية وبالتالي جاء التقرير على هذا النحو الذي يوضح الفقر الشديد في الإمكانيات الطبيعية والمعدنية بها ينتقل التقرير بعد ذلك إلى نقطة أخرى مهمة وخطيرة تربط بين المشاريع الصهيونية المبكرة وبين المشاريع الإسرائيلية الحالية تجاه سيناء ومصر وهي مشكلة المياه إذ يعود التقرير في النهاية ليرى أنه رغم ضعف الأرض الزراعية في سيناء إلا أنه من الممكن استصلاحها وإنتاج محاصيل على درجة عالية من الجودة لكن ذلك يستلزم جهود كبيرة وأموال طائلة واستثمارات من جانب يهود أوربا ويشير التقرير إلى ندرة المياه في سيناء وبالتالي تطرح البعثة الفنية مشروع لتوصيل مياه النيل إلى سيناء وإقامة مشاريع استثمارية زراعية في سيناء ويرى التقرير ضرورة موافقة الحكومة المصرية على ذلك وتنسيق العمل بينهما ويزعم التقرير أن المشروع لن ينتقص من حاجات مصر المائية من نهر النيل إذ يقدر التقرير أن المشروع الصهيوني لاستيطان سيناء يحتاج إلى حوالي ستين ألف متر مكعب من المياه بشكل يومي أي حوالي أربعة مليار وثلاثة مائة وأربعين ألف متر مكعب سنوي وأن هذه الكمية لا تتعارض مع حاجات مصر المائية إذ يمكن توفيرها من المياه التي تتدفق من نهر النيل إلى البحر المتوسط كما تساءل التقرير حول إمكانية توصيل المياه إلى سيناء من خلال أنفاق عبر قناة السويس ويرى ضرورة دراسة ذلك بجدية وهل تؤدي هذه الأنفاق إلى عرقلة الملاحة في القناة أم لا؟ وقدر هرتزل أن تكلفة نقل مياه النيل عبر أنفاق تحت قناة السويس سوف تصل إلى حوال مليوني جنيه أما بالنسبة لمشكلة خصوبة الأراضي في سيناء اقترح هرتزل جلب كميات كبيرة من الطمي من الدلتا ونقلها إلى العريش لتخصيب الأراضي هناك وكلف بعض المهندسين الزراعيين بالإشراف على هذا الأمر لكن هرتزل يعترف بمخاوفه من وصول أخبار هذا المشروع إلى الدولة العثمانية إذ ربما تعترض اسطانبول على ذلك الأمر بشدة نتيجة أهمية سيناء وفلسطين بالنسبة لها ولم ينس التقرير مسألة وضع تصور لحدود هذه الدولة الجديدة أو فلسطين المصرية إذ يرى التقرير أن تمتد حدودها ما بين البحر المتوسط شمالا والحدود مع الدولة العثمانية شرقا ومساقط وادي العريش ومرتفعات التيه جنوبا وقناة السويس وخليجه غربا وهي نفس حدود سيناء وحاول هرتزل من خلال علاقاته الوثيقة بكرومر في مصر تمرير الموافقة البريطانية المصرية على هذا المشروع وبالفعل لم يعترض كرومر لكن الحكومة المصرية كانت تتخوف بشدة من هذا المشروع فاعترضت عليه متعللة بتبعية مصر للدولة العثمانية وبالتالي فإن القوانين والأوامر العثمانية لا تسمح تحت أي سبب أو مبرر بالتنازل عن أي منطقة تتعلق بالسيادة المصرية العثمانية وعلى الرغم من رفض الحكومة المصرية لهذا المشروع احترام منها للقوانين العثمانية التي كانت مصر تنطوي تحت لوائها إلا أنها رأت أنه من الممكن أن تسمح بإقامة مشاريع صغيرة لليهود في سيناء بشرط أن يكونوا من رعايا الدولة العثمانية وكانت وجهة نظر الحكومة المصرية أن جميع رعايا الدولة العثمانية وبصرف النظرعن الديانة لهم نفس الحقوق والواجبات إلا أن هذا التحفظ من جانب الحكومة المصرية كان في الحقيقة بمثابة رفض تام لمشروع هرتزل لأنه من غير الممكن ليهود الدولة العثمانية إقامة مثل هذه المشاريع الاستيطانية الكبيرة كمشروع هرتزل الذي كان يعتمد على دعم يهود أوربا وليس يهود الدولة العثمانية ورغم الاعتراض المصري لم يفقد هرتزل الأمل في تحقيق مشروعه الاستيطاني في سيناء ولجأ من جديد للحكومة البريطانية لتضغط بشدة على مصر لتمرير هذا المشروع لكن الموقف المصري لم يتغير وقرر هرتزل العودة من جديد إلى القاهرة في محاولة للضغط على الحكومة المصرية للموافقة على مشروع مستعمرة يهودية في شبه جزيرة سيناء لكن الحكومة المصرية تعلن بكل وضوح رفضها لهذا المشروع ويبدأ كرومر نفسه في التراجع عن المشروع الصهيوني في سيناء ويرسل تقرير سري إلى لندن يحدد فيه موقفه من هذا المشروع
“إنه منذ بداية الموضوع حاولت بالرغم من المعارضة الشديدة بكل ما في وسعي حمل المختصين على الاستماع لوجهة نظر د هرتزل ومن معه إلا أنني بصفة قاطعة ونهائية أرى أنه يجب صرف النظر عن الموضوع وأريد أن أضيف إلى ذلك أن معارضة الحكومة المصرية لا ترجع إلى شعورٍ معاد لليهود بل تستند إلى أنها لا تعتقد أن في الامكان نجاح مشروع كهذا ويشاركها الرأي كل الجهات المختصة سواء كانت أهلية أم بريطانية ومن الأكثر تعقل الامتناع عن تشجيع د هرتزل على الاستمرار في السير وراء أحلام لا يمكن تحقيقها”.
ورغم ذلك لم تنقطع محاولات هرتزل في الضغط على بريطانيا لتمرير المشروع لكن مشروعه لم يلق النجاح وانتهى بالفشل لدرجة أحبطت هرتزل نفسه فكتب عن ذلك في مذكراته:
“ظننت أن خطة سيناء مؤكدة النجاح إلى درجة أنني ما عدت أفكر بشراء مدفن للعائلة في مقبرة دوبلينغ” حيث والدي مدفون مؤقتا والآن اعتبر المشروع سيناء، فاشل إلى درجة أن اتصلت بالمسئولين وساشتري المدفن.