الإرهاب في الساحل الإفريقي .. انقلابات لافتة وإرادة جديدة
بقلم : يوحنا عزمي
لسنوات وربما لعقود مضت ، لم تصافحنا مثل تلك الأخبار الايجابية في ملف حالة الإرهاب بمنطقة الساحل الإفريقي ، الذي ظل طوال فترة زمنية ممتدة هو المهدد الرئيسي والأخطر على معادلات الأمن بل والسياسة والحكم ، في غالبية دول تلك المنطقة ، وامتد كثيرا لجوارها الإقليمي بالتداعي والانتقال ، حتى صار معضلة حقيقية استلزم أكثر من مرة تدخل دولي في محاولات لحصاره أو القضاء عليه دون جدوى ..
بطبيعة النشاط الإرهابي مر بعديد من التحورات والانشقاقات فضلا عن تبدل الولاءات وعقد التحالفات المحلية مع المكونات الانفصالية المسلحة ـ عن الدول ـ ومع مجموعات الجريمة المنظمة النشطة والقادرة في تلك المناطق.
الأخبار الإيجابية التي خرجت من هذه المنطقة الشاسعة أخيراً
أنه وبعد قرابة 70 يوم من انطلاق عملية موسعة لمكافحة الإرهاب المسلح ، شاركت فيها قوات من أربعة دول أفريقية من منطقة الساحل هي “النيجر والكاميرون والنيجر وتشاد”، في كيان عسكري أطلق عليه “قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات” ضمت نحو (3000 عسكري) من الدول الأربع.
تمكنت تلك القوة عبر عدد من المهام البرية والجوية والبحرية من تحييد (800 إرهابي) تابعين لتنظيمي “داعش” و”بوكوحرام”، فضلا عن تدمير والاستيلاء على 44 مركبة و22 دراجة نارية ، وأعداد كبيرة قدرت بالآلاف من الأسلحة الثقيلة والخفيفة ..
كما تمكنت من تدمير عشرات الأماكن التي ظلت تستخدم لسنوات في صناعة العبوات الناسفة بما فيها من مواد شديدة الانفجار هذه العملية الموسعة بدأت في 28 مارس الماضي ، وسميت بـ”لاك سانيتي” (سلامة البحيرة) وفق نطاقها وامتدادها الجغرافي الذي استهدف في المقام الأول بحيرة تشاد والجزر الموجودة بها ومناطق الغابات المجاورة لها ، كونها ظلت ملاذا آمنا تسمح للمسلحين بالاستقرار فيها ، وشن الغارات المتتالية انطلاقا منها
على أهداف مدنية وعسكرية ، أصابت كافة البلدان المشاركة في العملية وغيرها من دول الجوار ، ومن ثم العودة للاستقرار بها مرة أخرى باعتبارها ملاذا مثاليا بعيدا عن قدرة الأجهزة الأمنية المحلية في السيطرة عليها.
التاريخ الحديث لتلك المنطقة مع النشاط الإرهابي ، تطور بصورة فادحة مع اندلاع هجمات تنظيم “بوكو حرام” في شمال نيجيريا عام 2009 ، فقد سبقها بعض أفرع تنظيم “القاعدة” التي كان أشهرها ما سمي بـ”قاعدة بلاد المغرب العربي”، لكن ومع تواجدها خلال حقبة زمنية سبقت بوكو حرام إلا أن هدفها الرئيسي ظل هو بلدان الشمال الأفريقي ، وتحديدا ليبيا وتونس والجزائر والمغرب كما هو واضح من تسميتها “المغرب العربي”.
ولذلك تحركت في مناطق دول الساحل باعتبارها مسارات للمرور وأماكن للافلات من ملاحقات دول الشمال الأمنية وكعادة الظاهرة الإرهابية نقلت خلال هذه الأنشطة الثانوية قدر من التأثير في بيئات كانت مهيئة لاستقبال مثل تلك المؤثرات بل وتطويرها والمضي بها قدما إلى مساحة متقدمة من التوحش والعنف.
وهذا بالضبط ما جرى مع تنظيم “بوكو حرام” الذي استلم راية العمل المسلح ، مع الحفاظ على انتماءه العقائدي لتنظيم “القاعدة” مما أتاح له الاستحواذ على ميراث كبير استغله في انتاج موجات متتالية وفادحة من العنف غير المسبوق. والذي تعكسه تقارير الأمم المتحدة التي تقدر أعداد القتلى من ضحايا “بوكو حرام” بـ 36 ألف شخص في نيجيريا وحدها ، ولو أن الاحصاء شمل كافة دول الساحل الافريقي لربما شارف الرقم لحدود الـ”100 ألف ضحية”.
لكن يظل هناك ثابت يمثل تداعي جسيم لهذا النشاط الإرهابي المستجد الذي تنامى بصورة انعكست على حياة المدنيين حيث وصلت بأعداد النزوح لرقم استثنائي ضرب نيجيريا ودول جوارها بما يفوق (3 مليون) نسمة غادروا منازلهم هربا من تلك الفوضى القاتلة ، التي دمرت حياة مدن وقرى ومناطق بكاملها.
هذا الأمر صنع حالة مستعصية من الخلل في الأنظمة السياسية لتلك البلدان، واستدعت في كثير من فصول تلك الموجات الإرهابية الاستعانة بحملات دولية ، شاركت الولايات المتحدة في بعضها وساهمت فرنسا في العديد منها أيضا قبل مغادرتها الأخيرة ، بعد
أن زادت التعقيدات وارتفعت فاتورة الكلفة الاقتصادية والسياسية عليها بأكثر مما تحمل ، فقررت أن تفصل الرباط التاريخي مع بعض بلدان الساحل على الأقل في سياق التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب والتهديد المسلح.
فمخاطر هذه الجماعات الإرهابية تتزامن وتتقاطع مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة ، التي توفر أرضا خصبة لتجنيد عناصر جديدة وسط استغلال مثل تلك الجماعات لاحتياجات السكان وصراعاتهم في آن.
كما لا تبتعد الظاهرة المعقدة كثيرا عن صراعات النفوذ للدول الكبرى ، ففرنسا بعد أن خرجت من دولة مالي تمكنت مؤخرا من الحصول على موافقة النيجر على السماح بنشر قوات فرنسية لمحاربة الجماعات الإرهابية ، مما يشكل تحديا لروسيا التي تأمل حاليا في توسيع مساحات نفوذها بالساحل الإفريقي على حساب باريس.
فالأخيرة تحاول قطع الطريق على الوجود الروسي في منطقة الساحل والذي بات قويا ، حيث أصبحت شركة “فاجنر” المسلحة الروسية رقما لا يمكن تجاوزه ، بعد أن نشطت بقوة في عدد من الدول الإفريقية قبل أزمتها الأخيرة مع أوكرانيا، خاصة في أفريقيا الوسطى ومالي بوجود مستقر وحجم نفوذ فاعل مستمر حتى الآن.
لسنوات كانت الانتقادات الأمنية تنصب في اتجاه غياب التنسيق الأمني بين قادة وأجهزة دول غرب إفريقيا، مما يقلل قدرتها على إحراز النتائج الكاملة في هزيمة الإرهاب المدجج بالسلاح والأمكانيات البشرية.
ولذلك أعادت جيوش البلدان الأربعة وكذلك بنين ، تنشيط القوة متعددة الجنسيات ، التي أنشئت في عام 1994 وأصابها الترهل والانقسام مما أفقدها القدرة على تحقيق النتائج، واليوم في العملية الأخيرة تحاول استعادة زمام المبادرة والعمل الجماعي بغية حصار التهديد ، والهجوم على معاقلة لتدمير قدراته التي تطورت بعد الدخول على خط الانتماء لتنظيم “داعش” ..
وهي النسخة الأكثر شراسة وقدرة من “بوكو حرام” وأبعد من
حيث تخطيطها للبقاء الدائم، ليس في نيجيريا وحدها بل داخل كافة البلدان المتشاطئة على بحيرة تشاد.
ورغم هذه النتائج الإيجابية الأخيرة إلا أن الحرب لازالت طويلة وممتدة، فالنسخة الجديدة التي ورثت وانشقت عن “بوكو حرام” لن تستسلم بسهولة ولديها مخزون بشري وتسليحي يحتاج لمزيد من عمليات المجابهة الموسعة.
فهذه المجموعات المسلحة لديها قراءة دقيقة لما يحدث، وتدرك أن عليها اعتماد خطط مضادة لعملية توحيد جهود دول الساحل، وربما كان نموذج ما جرى مؤخرا في بوركينا فاسو معبرا عن هذا التوجه إلى حد بعيد.
فمنذ أسابيع وخلال العملية المشتركة الخاصة ببحيرة تشاد قتل حوالي أربعين من المتطوعين الأمنيين والمدنيين في شمال وشرق بوركينا فاسو ، في ثلاث هجمات منفصلة نفذها مسلحون تابعين لتنظيم “داعش” في رسالة إرهاب وترويع شرسة لضمانة عدم انضمامهم للعملية المشتركة.
العملية الأولى جرت في المنطقة الحدودية الجنوبية الشرقية القريبة من حدود توجو وبنين، والثاني على مراكز الدرك والشرطة في فارامانا قرب الحدود مع مالي، والثالثة استهدفت قافلة مدنيين متطوعين.
ليصل التنظيم برسالته لكافة الأطراف وتتناقلها سكان تلك المناطق الحدودية، لتقول باصرار أنها ستخوض معركة التهديد في ساحات بديلة في حال ضربت منطقة البحيرة، فهي قادرة طوال الوقت على استحداث ساحات جديدة أكثر هشاشة من سابقتها.