سيناء والحلم الصهيوني
بقلم رسلان البحيصي
على الرغم من فشل مشروع هرتزل لإقامة مستوطنات يهودية في سيناء في مطلع القرن العشرين، بغرض أن تكون هذه المستوطنات بداية حقيقية لإقامة الوطن القومي لليهود والدولة الصهيونية الجديدة إلا أن الحلم الصهيوني في سيناء لم ينقطع أبدًا.
ففي تلك الأثناء حدثت مشكلة الحدود ما بين مصر والدولة العثمانية، هذه المشكلة التي عُرفت بعد ذلك باسم “مشكلة طابا الأولى” تمييزًا لها عن مشكلة طابا الأخيرة التي حدثت بين مصر وإسرائيل من أجل ترسيم الحدود حيث تأزمت العلاقات المصرية العثمانية في عام 1906 بسبب رغبة الدولة العثمانية في مد نفوذها إلى خليج العقبة لتعلن سيطرتها على المشرق العربي ومحاربة الوجود البريطاني في مصر وكانت ترى بريطانيا التي تحتل مصر ضرورة تحجيم الدور العثماني في مصر والانتصار لوجهة النظر المصرية بتبعية طابا إلى السيادة المصرية لا إلى السيادة العثمانية بعد الضغوط البريطانية ـــ المصرية على استانبول وترسيم الحدود المصرية العثمانية.
من هنا تجددت أحلام المشروع الصهيوني في الاستيطان في سيناء إذ ظن الصهاينة أن استقرار واطمئنان السياسة البريطانية في مصر سيكون عاملاً هامًا في الضغط على الحكومة المصرية وأن بدايات الصراع البريطاني العثماني سوف تكون محفزًا يُشجع بريطانيا على إقامة مستوطنات يهودية حاجزة في سيناء من الممكن أن تكون مخلب قط في مواجهة الدولة العثمانية في فلسطين.
وعلى هذا عادت المشاريع الصهيونية من جديد لتشجيع الاستيطان في سيناء.
كان من أهم هذه المشاريع مشروع كنزفيتش (1908- 1912) والكسندر كنزفيتش هو إنجليزي يهودي كان وكيل القنصل البريطاني في غزة حيث بدأ مشروعه الاستيطاني بمحاولة شراء الأراضي في مدينة رفح المصرية ثم تقدم بمشروعٍ متكامل إلى المعتمد البريطاني في مصر آنذاك “جورست”، في محاولةٍ للحصول على دعم بريطانيا في شراء اليهود للأراضي على الحدود المصرية العثمانية.
لكن جورست عاد ليؤكد مجددًا نفس الرد الذي انتهى إليه المعتمد البريطاني السابق كرومر بالنسبة لمشروع هرتزل بأن هذا المشروع الجديد لا يمكن تحقيقه في الظروف الحالية.
استمر كنزفيتش في عمليات شراء الأراضي في المناطق الحدودية بين مصر وفلسطين على أمل أن تكون هذه الأراضي هي نقطة الانطلاق للدولة الصهيونية الوليدة ويرجح البعض بأن كنزفيتش قد نجح في نهاية عام 1911 في شراء حوالي عشرة آلاف فدان بهدف جذب المستوطنين اليهود إليها.
وقد أثارت هذه العمليات المريبة في شراء الأراضي من جانب اليهود الريبة والشك في الأوساط المصرية والبريطانية وحتى العثمانية في استانبول ففي عام 1912 ارسل “كتشنر”، المعتمد البريطاني، رسالة إلى وزارة الخارجية البريطانية يشير فيها إلى رفض الحكومة المصرية المستمر لعمليات الاستيطان في سيناء وإلى أنه نفسه قد أبلغ كنزفيتش أن شراء اليهود للأراضي قرب الحدود المصرية الفلسطينية هو أمر غير شرعي وأن اجراءات الشراء لا يمكن تسجيلها قانونيًا. وفي استانبول يرسل القائم بالأعمال في السفارة البريطانية هناك رسالة إلى لندن مفادها عدم قانونية شراء كنزفيتش للأراضي على الحدود وأن هذا الأمر يحرج الحكومة البريطانية
وفي رسالةٍ تالية تطالب السفارة البريطانية في استانبول السلطات المختصة بايقاف شراء الأراضي لصالح اليهود على الحدود الفلسطينية المصرية نظرًا لحساسية هذا الأمر على المستوى الدولي ومنع إنشاء مستوطنات قرب الحدود المصرية العثمانية.
من هنا تجمعت كل العوامل الدولية والمحلية لإفشال مشاريع الاستيطان اليهودي في سيناء
اما بالنسبة لمصر فقد انتبهت الحكومة المصرية مبكرًا لخطورة بيع الأراضي في المناطق الحدودية وأصدرت قرارات بتحريم تملُّك الأراضي في هذه المناطق بالنسبة للأجانب وعدم جواز انتقال حق الانتفاع إلا بموافقة وزارة الحربية لحساسية هذه المناطق وتبعيتها لشئون الحدود بل إنها اشترطت حتى لتملك المصريين أنفسهم العقارات والأراضي في تلك الجهات الحدودية ضرورة الحصول على إذن من وزير الحربية.
اما بريطانيا لم ترحب كثيرًا بفكرة إنشاء مستوطنات في سيناء لأنها أدركت أن ذلك سيزيد من تعقيدات الأجواء الدولية لا سيما وأن العالم آنذاك كان يعيش على دقات طبول الحرب العالمية الأولى فضلاً عن محاولة بريطانيا إبعاد أي توتر عن منطقة قناة السويس التي أصبحت منطقة استراتيجية بريطانية خاصةً مع هبوب رياح الحرب العالمية الأولى
بالنسبة لاستانبول كانت مواجهة مشاريع الاستيطان اليهودي قد أصبحت الورقة الأخيرة في يدها لتأكيد سيادتها ونفوذها في المشرق العربي، وخاصةً في فلسطين وتجميل وجهها أمام العرب والعالم الإسلامي.