فاروق الذي لا تعرفه الحلقة الأولى.
بقلم عبير مدين
يدعي البعض أن فاروق طلب الحماية البريطانية لعرشه أسوة بجده وان التاج البريطاني رفض طلب فاروق لأن نظامه أصبح من وجهة نظره مكروها من الشعب وان الأوان لتغيره
والواقع أن بريطانيا كانت تخشى القادمين الجدد فهي تشك أنهم مدعومين من الشيوعيين عدوهم اللدود، و فاروق ما كان ليطلب مساعدة بريطانيا لحماية عرشه وذلك لتوتر العلاقة بينهما كذلك لديه هاجس أنهم هم من وراء حركة الجيش للخلاص منه بعد أن أعلن بطريق غير مباشر عن رفضه الوجود البريطاني في مصر حتى لو تعرضت حياته للخطر ووضح موقفه جليا عندما وقع حادث القصاصين 1943 حيث كان الملك فاروق يقود السيارة التي أهداها له هتلر بسرعة كبيرة عائدا من رحلة صيد بط قرب الإسماعيلية
وبجوار ترعة الإسماعيلية فوجئ بالمقطورة الإنجليزية وكانت قادمة من بني غازي وقد انحرفت يسارا فجأة وسدت الطريق أمامه لكي تدخل المعسكر، قام الملك بالانحراف لتفادي السقوط في الترعة، واصطدمت مقدمة المقطورة بسيارته وطارت عجلاتها الأمامية وحطمت الباب الأمامي ووقع الملك فاروق وسط الطريق.
أمام بوابة معسكر المنشآت الهندسية رقم 140، وكاد يودي بحياة الملك وتم نقله إلى داخل المعسكر لإسعافه ولكنه قال (لا أريد شيئا من هؤلاء) بعد انصراف الطبيب الإنجليزي وفهم المرافقون مغزى كلام الملك فحملته السيارة الملكية إلى المستشفى العسكري القريب في القصاصين وقامت الطبيبة الإنجليزية بفحص الصدر والبطن وأشار الملك إلى موضع الألم وقال: عندي كسر في عظمة الحوض أسفل البطن ورغم ألمه الشديد كان سعيدا حينما شاهد ضباطاً وجنودا مصريين من الجيش المرابط في المنطقة وقد أسرعوا من تلقاء أنفسهم وأحاطوا بالمستشفى لحراسته وتم إبلاغ القصر الملكي وحضر الجراح علي إبراهيم باشا بالطائرة من القاهرة وكان أحد كبار الجراحين الإنجليز قد عرض إجراء العملية بصفة عاجلة ولكن الملك فضل انتظار الجراح المصري رغم خطورة إصابته، وسرعان ما انتشر الخبر في أرجاء مصر وزحفت الجماهير بالألوف وأحاطت بمستشفى القصاصين طوال إقامة الملك به بعد الجراحة الخطيرة التي ظل يعاني من آثارها، وسرت شائعات بأن الحادث كان مدبرا للتخلص من الملك فاروق بسبب تفاقم الخلاف الحاد بينه وبين السفير البريطاني (السير مايلز لامبسون) بعد حادث 4 فبراير وحصار الدبابات البريطانية لقصر عابدين ولكن الملك نجا بأعجوبة وتجلى مدى حب الشعب له وقتها.
الشعب المصري شعب طيب يمكن استمالته بسهولة كان سعيدا بالتحاق أبناءه بالجيش المصري واعتقد انه استشعر الخطر على أبنائه عندما قامت حركة الجيش لذلك عندما نزل محمد نجيب وجمال عبد الناصر للشارع سارع الشعب لدعم أبناءه والالتفاف حولهم خشية أن يبطش بهم القصر ومن هنا اكتسبت حركة الجيش صفة ثورة شعبية فهذا الشعب الذي خرج لتأييد حركة الجيش هو نفسه الشعب الذي أحاط بمستشفى القصاصين للاطمئنان على الملك
كان فاروق يخشى أن يقتله الانقلابيون هو وأفراد أسرته مثل ما حدث في عدد من بلدان العالم وبالفعل كان هذا الرأي انحاز له عدد من الضباط الأحرار قبل أن يتخذوا قرار بنفيه خارج البلاد و حسب الوثائق البريطانية والأمريكية اتصل الملك فاروق، في الخامسة صباح 23 يوليو، بالسفير الأمريكي في القاهرة جيفرسون كافرى يطلب منه أن تساعده الولايات المتحدة على مغادرة الأرض المصرية بأسرع ما يمكن بعد أن استشعر الخطر الشديد الذي يتعرض له. وقد سأل فاروق السفير إذا كانت هناك أي قطعة بحرية أمريكية قريبة من الشواطئ المصرية تستطيع أن تتحرك بسرعة إلى ناحية الميناء الخاص بقصر رأس التين لتأخذه هو وعائلته إلى خارج مصر تحت حماية أمريكية. وقال فاروق للسفير كافرى إنه لا يستطيع وأسرته المغامرة بالذهاب إلى أي مكان، لأنهم قد يقعون في الأسر، وهو لا يستطيع أن يتبيَّن مدى صلة حركة الضباط في القاهرة بقوات حامية الإسكندرية. وأضاف فاروق أنه فكر في المغادرة بواسطة اليخت الملكى (المحروسة) لكن قائد اليخت (القومندان جلال علوبة) أبلغه خشيته من أن تكون بطاريات السواحل موالية للانقلابيين فتضرب اليخت الملكي بمدافعها وتعطله أو تغرقه.
وتضيف الرسالة التي بعث بها السفير الأمريكي في القاهرة إلى وزارة الخارجية الأمريكية أن فاروق ذكر له أنه لم يوجه مثل هذا الطلب إلى السلطات البريطانية، لأنه لا يريد أن يغادر مملكته تحت حماية المدافع البريطانية فتسوء صورته أمام شعبه، فضلاً عن أنه ليس واثقاً من النوايا البريطانية تجاهه. وجاءت نصيحة السفير الأمريكي للملك بأن يحتفظ بهدوء أعصابه، لأن ذعره كما هو ظاهر لا يخدم حياته، والأفضل أن يظل ثابتاً في انتظار الكيفية التي يتصرف بها الانقلابيون.
ومع أن السفير الأمريكي أبلغ الملك بأن الحكومة الأمريكية لن تخذله بما يعرِّض سلامته للخطر، فإن الوثائق تكشف أن واشنطن وجدت أن ما حدث في الساعات الأولى لـ (الانقلاب العسكري في مصر) لم يكن فيه ما يهدد حياة فاروق، وأن مطالب الانقلابيين مقصورة على إبعاد عدد من رجال الملك في الجيش، ولكن ( إذا ظهر بين الانقلابيين ضباط شيوعيون كما تقول الوثائق فإنها سوف تعيد حساب موقفها من الامتناع عن التدخل المباشر).
تطورت الأحداث بالنسبة لفاروق منذ صباح يوم 23 يوليو 52 وجرت في ذلك اليوم على الوجه التالى:
1ـ إعلان الجيش بيانه الذي تضمن قيامه بتطهير نفسه وتولى أمره رجال يثق فى قدرتهم ووطنيتهم.
2ـ ظهور اللواء محمد نجيب كقائد للحركة، ونزوله في العاشرة صباح اليوم فى سيارة مكشوفة شوارع القاهرة وإلى جانبه (بكباشى) غير معروف، وقد أحسن الشعب فى كل الشوارع استقبالهما، مما أعطى (الحركة المباركة)- كما سمَّت نفسها- شرعية شعبية أولية. وفيما بعد تبين أن البكباشى الذي صاحب نجيب اسمه جمال عبد الناصر، وقد أوضحت الأحداث بعد ذلك أنه القائد الحقيقي للضباط الأحرار.
3ـ إبلاغ فاروق مطالب الجيش في أول اتصال جرى بين القصر وضباط الحركة عن طريق الوزير فريد زعلوك، الذي اتصل باللواء محمد نجيب يسأله: ما مطالب الجيش؟ وكان رد نجيب: نحن نطالب بتكليف على ماهر بتشكيل الوزارة، وبطرد محمد حسن وحلمي حسين وأنطوان بوللى من حاشية الملك.
4ـ قيام الملك فاروق بتكليف على ماهر بتشكيل الوزارة حسب طلب الحركة. وكان إحسان عبد القدوس، رئيس تحرير روز اليوسف، الذي ذهب إلى مقر القيادة العسكرية صباح 23 يوليو، حيث كان هناك محمد حسنين هيكل من أخبار اليوم، وحلمى سلام من دار الهلال، كان إحسان هو الذي اقترح على ضباط الحركة اسم على ماهر لتولى الوزارة، ولكن على ماهر اشترط أن يأتيه التكليف من الملك.
حتى هذه اللحظة لم تظهر أهداف ثورة يوليو فقد كانت كل المطالب مطالب فئوية للجيش فلا كانت مناداة بعدالة اجتماعية ولا مناداة بالقضاء على الإقطاع ولا غيره ولولا إذعان الملك فاروق لطلباتهم من البداية لما ارتفع سقف طلباتهم لدرجة عزله عن من حكم مصر
واعتقد انه صياغة الأهداف الاجتماعية للثورة كنوع من مكافئة الشعب الذي ساند أبناءه لاستمرار اكتساب الشرعية الشعبية
في برقية مساء يوم 23 يوليو من القائم بالأعمال بالسفارة البريطانية فى القاهرة (حيث كان السفير خارج مصر فى إجازة) إلى وزارة الخارجية فى لندن، وكان وزيرها أنتونى إيدن. قالت البرقية إن السفير الأمريكي كافرى أبلغهم بأن الملك فاروق اتصل به في الثالثة بعد الظهر، وأبلغه أنه لا يجد بديلاً عن قبول مطالب العسكريين، بما فيها استقالة نجيب الهلالى، وتعيين على ماهر رئيساً للوزراء.
وأبدى الملك للسفير الأمريكي شعوره بالمرارة الشديدة منهم لعدم إبلاغه باستعداد أمريكا للتدخل، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك كثيراً وقال لكافرى إنه يعرف أن (الإنجليز) هم المدبرون الحقيقيون للانقلاب ضده، وهو على أي حال مستعد لمواجهة كل الاحتمالات، ولن يترك البلد مهما كان.
وهنا تناقض كيف سارع الملك في بداية حركة الجيش لطلب العون الأمريكي لمغادرة البلاد وفي نفس الوقت يقرر ألا يغادر البلاد ويواجه الحركة؟ اعتقد ان الامر ينطوي على مكيدة لتشويه صورة فاروق
فلا دليل مادي على طلب فاروق التدخل الامريكي لحمايته لا يوجد غير برقية بعث بها مايكل كروسويل، القائم بالأعمال البريطاني، إلى وزارة خارجيته في لندن يوم 24 يوليو 52 الساعة العاشرة صباحاً يقول فيها: تقابلت الآن مع السفير الأمريكي المستر كافرى، وقد قال لى إن الملك فاروق يلاحقه بالتليفونات منذ الفجر، يقول له إن الوسيلة الوحيدة لمساعدته هى تدخل عسكرى لإنقاذه وإنقاذ أسرته، وهو لم يطلب تدخل السفارة البريطانية، لكن تلميحاته كانت واضحة نحو ذلك الطلب، ولذلك فإن كافرى يريد معرفة رد فعل حكومة جلالة الملكة. وقد أبلغته بأن (بريطانيا) تتابع ما يجرى، وعلى علم به، وأنه إذا أراد رأيى الشخصى فهو أننا أمام مشكلة داخلية عويصة، ومن المشكوك فيه أن تدخلاً أجنبياً يمكن أن يساعد فاروق على حلها.
جاء موقف بريطانيا بعد أمريكا حاسماً لغير صالح فاروق عندما بعث وزير الخارجية إيدن إلى القائم بأعمال السفارة البريطانية في القاهرة يوم 24 يوليو رسالة أهم ما فيها قول إيدن إن حكومة صاحبة الجلالة الملكة لا ترغب في التدخل في الشأن المصري إلا إذا نشأت أحوال تتطلب حماية أرواح الرعايا البريطانيين، ولذلك صدرت الأوامر إلى القوات المسلحة البريطانية في مصر (كانت موجودة في منطقة القناة) بأن تكون في حالة استعداد، وقد أبلغنا اللواء محمد نجيب بوسائلنا (عن طريق اللواء شوقي عبد الرحمن) ليكون واضحاً أمامه عدم قلق الجيش المصري من رؤية أي استعدادات لنا، وأنها ليست موجهة ضد القوات المصرية، بل إن الأوامر لدى القوات البريطانية تجنُّب وقوع أي حادث.
وفى يوم 25 يوليو، وفى رسالة عاجلة بعث بها القائم بالأعمال البريطاني كروسويل إلى وزارة خارجيته تقول: أبلغني السفير الأمريكي جيفرسون أن الملك فاروق اتصل به منفعلاً يطلب حاملة طائرات أمريكية تقترب من الشاطئ المصري أمام قصره، وتنقله إليها طائرة هليكوبتر تابعة لها، لأنه مقتنع الآن بضرورة الإفلات هرباً. وقد بذل السفير الأمريكي كل نفوذه وحججه ليقنع الملك بعدم مغادرة بلاده حتى لا يفتح الطريق أمام إعلان جمهورية متطرفة!
وفى مساء يوم 25 يوليو قطعت الاتصالات التليفونية بين قصر رأس التين- حيث يقيم فاروق- وخارج القصر، وأصبح فاروق في حالة حصار بعد أن رفضت أمريكا وبريطانيا مساعدته، منتظراً ما تأتى به الساعات القادمة.
مما سبق يتأكد أن جلالة الملك فاروق منذ بداية حركة الجيش لم يطلب حماية أجنبية لعرشه وإنما أراد الخروج من مصر خروج امن له ولأفراد أسرته وذلك حتى يجنب البلاد ويلات حرب أهلية
غادر فاروق البلاد إلى منفاه في ايطاليا لا يحمل غير 22 حقيبة بها ملابسه هو وزوجته و أولاده، ومبلغ 5000 جنيه كما كان رصيده في بنوك سويسرا 20000 جنيه فقط لا غير
وبعد أقل من عامين في المنفى طلبت زوجته الملكة ناريمان الطلاق منه وعادت إلى مصر دون إذنه، بعد أن أذنت لها الحكومة المصرية بذلك. وأعلن عن الطلاق أمام محكمة الأحوال المدنية وفي الصحف الرسمية. وكشفت ابنته الكبرى الأميرة فريال في برنامج تليفزيوني مع محطة mbc في سبتمبر عام 2007 أن والدها كان يتلقى إعانات مالية سنوية من العائلة المالكة في السعودية نظرًا للصداقة التي كانت تربطه بمؤسس المملكة الملك عبد العزيز ال سعود
هذا هو فاروق الذي لا تعرفه فاروق الذي كانت اخر كلماته التي قالها للواء محمد نجيب الذي خرج في وداعه ( خلو بالكم من الجيش وخلو بالكم من مصر )