مشاعر صادقة، من قلب صادق
بقلم/ صلاح الدمرداش
ماأقسى ما قرأت.. وقد شاهدت وسمعت ..
عمو.. بس طلعني، بشتغل عندك خدّامة”
جملة تفوهت بها طفلة سورية تحت أنقاض الزلزال، هي تعلمت أن هذه الحياة القاسية سلبت معنى البراءة بكل تفاصيلها.
هي ما كانت لتتفوه بهذه الجملة لولا الكثير مما رأته وشاهدته بسنين عمرها القليلة.
لقد أيقنت منذ ولادتها أن كل شيء في عالمها الطفولي الصغير يجب أن يكون بمقابل كبير، فما زالت تساير بقايا الحرب في بلدها، وجموع التشرد والعذاب والضياع والفقر، لتعرف أنها “ابنة القليل”، و”ابنة التعثر” و”ابنة الهشاشة”، و”ابنة اللا وطن”، لتعرف أنها مجرد رقم طارئ على هذه الحياة، بل ولربما كانت تظن أنها لا تستحق حتى أن تعيش في هذه الحياة، وإن كان وأرادت أن تحيا فعليها أن تقدم مقابل ذلك شيئاً باهظ الثمن.
لقد قدمت للمنقذ جملة قاسية “طالعني وبشتغل عندك خدامة” جملة ما كانت لتقولها لو عرفت أن هناك حقوقاً للإنسان، ما كانت لتقولها لو علمت أنها بالإصل إنسان، ما كانت لتقولها لو نشأت في مجتمع يراعي حقوق الإنسان وحقوق الأطفال.
جملة هذه الطفلة قاسية لدرجة أنها كانت قبل الحادثة تعرف أنها تحمل جنسية رخيصة، وأنها تعيش فوق أرض رخيصة، وولدت في زمن أرخص ما فيه الإنسان، وأرخص ما في الإنسانية الطفولة وبراءة الأطفال.
“عمو بس طلعني وبشتغل عندك خدامة” هي ليست جملتها وحدها، إنها جملة أطفال سوريا جميعاً بعد أن عرفوا أن الإنسانية وقوانين حقوق الإنسان في هذا الزمن وصلت إلى درجة تجعلهم موقنين أن لا شيء إلا وله مقابل، فهي لا تصدق أن هذا المُسعف والمنقذ سيُخرجها دون مقابل، بل لا تصدق أن يمد لها يد المساعدة إلا بمقابل، فسارعت لتقدم له المقابل وفق ما تعلمته خلال سنين عمرها القليلة من قسوة هذه الحياة.
كلماتها كانت مزلزلة للمُسعف ولقلوب كل من شاهدها بقوة تضاهي الزلزال نفسه، فالزلزال حدث طبيعي يصيب أي بقعة على وجه الأرض ويؤثر على القاطنين فوق هذه الأرض من بشر وغيرهم من الكائنات.
لكن أن ترى هذه الصغيرة نفسها رخيصة إلى الحد الذي تبيع نفسها كخادمة للمسعف والمنقذ، ليس حدثاً عادياً أو عرضياً، جملتها الطبيعية يجب أن تكون “عمو ساعدني”.. ساعدني دون مقابل لأن هذا واجبك تجاه الضحايا، وواجبك كإنسان تجاه الطفولة، وواجبك كمسعف تجاه الجرحى، أما أنها قالت أعمل عندك كخادمة، فهذا يعني قطعاً أنها تدرك بفطرتها السليمة أنها تعيش في زمن الوحوش، في زمن كانت فيه تمرض ولا مسعف، في زمن تبرد ولا دفء، تجوع ولا طعام، في زمن تعمل وهي في طور البراءة، في زمن جعلها تقاسي دون ذنب سوى كونها ولدت في مكان وزمان لا يراعي الإنسان فيه حق الإنسانية أو حق الطفولة.
“عمو بس طالعني وبشتغل عندك خدامة”
وصمة عار على جبين الحكومات، وعلى جبين المنظمات، وعلى جبين تاريخنا وجبين ضمن يدّعون حقوق الإنسان وحقوق الأطفال، إنها وصمة عار على جبين الإنسانية، وصمة عار كانت مخفية وكشفتها نائبات الزلزال،
القادم لن يكون سوى أدهى و أمرّ.
وأخيرا وليس ٱخرآ :
ندعو الله ان يلطف بنا وان يحسن ختامنا
ونسأل الله العلى القدير أن يتغمد الضحايا بواسع رحمته وأن ينعم بالشفاء العاجل للمصابين .